عدم القنوط من رحمة الله تعالى من السمات الأساسية لتوبة الصحابة رضوان الله عليهم
السمة الخامسة: عدم القنوط من رحمة الله تعالى مهما عظم الذنب، فلا يكون هناك يأس أبدًا من رحمة الله ﷾، للحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجة عن أبي هريرة ﵁ وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ: (لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم)، وفي رواية أحمد (حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض)، لا أحد أذنب بهذا المقدار الكبير من الذنوب، إذًا: فكل الذنوب يتوب الله ﷾ عليها.
روى البخاري عن عبد الله بن عباس ﵄ قال: (إن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا محمدًا ﷺ فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة)، أي: نحن عملنا جرائم كثيرة جدًا في الجاهلية، فهل إذا دخلنا في الإسلام يعفو الله عنا؟ قال: فنزل قول الله ﷿ في سورة الفرقان ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾ [الفرقان:٦٨ - ٦٩]، ثم يقول: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان:٧٠]، فكل هذه السيئات السابقة تبدل إلى حسنات بمجرد التوبة ﴿فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان:٧٠]، وقال ابن عباس: ونزل أيضًا قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر:٥٣].
وروى البزار والطبراني بإسناد جيد عن أبي طويل شطب الممدود ﵁ وأرضاه: (أنه أتى النبي ﷺ فقال: أرأيت رجلًا عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئًا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا فعلها -والحاجة: الأمر الصغير، والداجة: الأمر الكبير- فهل لذلك من توبة؟ فقال له رسول الله ﷺ: فهل أسلمت؟ قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال له رسول الله ﷺ: تفعل الخيرات وتترك السيئات يجعلهن لك خيرات كلهن.
قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال رسول الله: نعم، فقال الرجل: الله أكبر فما زال يكبر حتى توارى) فخير عظيم بأن تمحى كل الذنوب السابقة، وليس فقط تمحى الخطايا بل تتحول إلى حسنات.
وثواب من الله ﷿، فأمر مهم جدًا أن الإنسان لا يقنط من رحمة الله ﷿، وخاصة أن الله ﷿ دعا إلى التوبة من لا يتخيل الناس أبدًا أن تقبل توبته عند الله ﷿.
قال ابن عباس ﵄: دعا الله ﷿ إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، فقال الله ﷿ لهؤلاء: ﴿أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة:٧٤]، فبعد كل هذه الجرائم العظيمة جدًا يدعوهم إلى التوبة وإلى الاستغفار.
كما دعا الله ﷿ كفار بدر إلى التوبة فقال: ﴿إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال:٣٨]، ودعا الله أصحاب الأخدود إلى التوبة وذلك بعد ما أحرقوا المؤمنين، فقد أحرقوا سكان قرية بكاملها ليست لهم جريمة إلا أن قالوا: ربنا الله، قال ﷾: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ [البروج:١٠] يعني: لو تابوا لغفر الله لهم، ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج:١٠]، ودعا الله ﷿ فرعون إلى التوبة بعد أن قال كلمته الفاجرة ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات:٢٤] وبعد أن قال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص:٣٨]، وبعد هذه السلسلة الكبيرة من القتل للأطفال والاستحياء للنساء قال الله ﷿ في حقه: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه:٤٤] فأمر الله نبيه موسى وهارون بالتودد إليه في الكلام، لعله أن يؤمن ويرجع إلى ربه ﷾، ﴿
12 / 14