أن يخط دائرة مركزها ليس في محيطها، فكلما رسم دائرة رأى المركز في داخلها، فيجتاز به وراء المحيط، ثم يدير يده فإذا واحدة أخرى تقاطع الأولى، ولم يصنع شيئا صحيحا مما يحاوله، ويمضي على ذلك ما شاء الله ولا يصنع شيئا، فلا هو يخطئ رأيه، ولا هو يرى من عمله شيئا صحيحا؛ وما بقي من الأرض فضاء لم يخط عليه بعد فهناك ... هناك يرى هذا الأحمق الدائرة المتوهمة التي يخرج مركزها عن محيطها!
من هذا ونحوه أصبحت السعادة وهما من الأوهام؛ إذ لم تعد في إشباع العواطف وتغذية الشعور، وليست في موضعها الذي هو بين الضمير والعقل، ولكنها في إشباع جسد لا يشبع ما دام حيا، وفي تغذية حاسة لا يزيدها الغذاء إلا شرها وضراوة، فلن تكتفي إلا إذا بطلت، وفي موضع مجهول بين هذه الحواس لا حد له إلا كالحد بين ما يجد المعدم وما يتمنى؛ فالسعادة على ذلك هي دائما في الاستعداد للسعادة، وكفى بهذا عبثا!
ولعمري ماذا تكون الحياة، بل كيف تكون؟ أليس يعلم الإنسان أنه سائر إلى الموت، ويعلم كذلك أنه طالب ما لا يموت؟ فلا جرم كان شعوره بهذا التناقض مؤلما، وكان هذا الألم هو منشأ الهموم التي لا تدعه لنفسه ولا تدع نفسه له، وكانت حقيقة هذه الهموم التي يجمعها كلها هي شعور الإنسان - شعورا فطريا جرى منه مجرى العادة - بالمنازعة بين ما يطلبه هو في الحياة، وبين الحقيقة التي تطلبه هو من الحياة - أي الموت - ومن ثم يضطرب كيانه العقلي، فيؤثر كل شيء في نفس هذا الإنسان تأثيرا أكبر من حقيقته؛ لأن حقيقة هذا الإنسان لم تعد في نفسه بل في مطامعه، فهو يا بني كالوعاء المثقوب، تصب فيه البحر ولا يزال فارغا! والحياة عنده دائما هي طلب الحياة، وكفى بهذا عبثا!
ولا تحسبن أنه لا يبالي بما مضى من عمره، بل هو يستشعر فوق ذلك الخوف من أن يكون الذي مضى هو أكثر العمر وأطيبه؛ ولذلك لا يبرح شقيا بما يحاول، إذ يحاول أن يجمع طيبات الحياة، ويستحوز عليها في القليل من عمره، ليستمتع بها فيما وراء ذلك، كأن الحياة التي قوامها من الغذاء لا تفارق الإنسان ما دام الغذاء في بيته، وكأن الله يبيع المستقبل لمن اجتمع له من الدنيا ما يتوهم أنه يقوم ثمنا للمستقبل.
لا يبرح هذا الإنسان شقيا، وهو أبدا من الهم والغيظ والتوقد واشتعال الأمل والاضطراب في أسباب الحياة كالسكة المحماة؛
9
يحسب ذلك من نفسه قوة وفضلا وسعة في الحيلة، ولا يدري أن هذه النار المشبوبة في صدره تقطع منه أكثر مما تقطع به، وأنها كما تعطيه قوة المضي في هنات الحياة وهيناتها، تعطي الأقدار الصلبة مثل هذه القوة عليه؛ فلا تكاد تصدمه من أي أقطاره
10
حتى يتثلم ويتفلل.
وهل تحسب مثل هذا يكون عداده في أهل السعادة، وهو من الحرص على الحياة يكاد يشم تراب قبره في كل حادثة تلم به، ولا يزال يصلب على كل باب من أبواب الأيام حين يفتحها الصباح وحين يغلقها الليل، ويرمى بالنبل المسموم من فضوح الدنيا وشهوات النفس الدنيئة، ويقتل ضميره كل يوم قتلة الكذب والغدر والإثم؛ لأن ذلك من وسائل الحياة التي تبسط عليه الدنيا؟
Page inconnue