قاتل الله البخل وقبحه، فما هو إلا حرص على المنفعة يشبه عبادة الوثنيين لكل ما توهموا فيه المنفعة، وإن كان للحواس نوع من الكفر بالله فكفر اليد في إمساكها، وإن الله لرحيم إذ لم يعاقب البخلاء بما يعاقبون به الناس، فليس بين كل بخيل وبين الهلاك إلا أن ينقل الله «الإمساك» من يده إلى جوفه! على أن البخل إذا لم يكن بقية من الوثنية القديمة بعينها فهو على كل حال نقص من الإيمان؛ لأن الله وعد المحسنين والمتصدقين ثواب ما أنفقوا مكافأة على فضيلة الإحسان التي هي في الحقيقة فضيلة الإحساس، ثم أن يخلف عليهم ما أنفقوه أضعافا مضاعفة؛ إذ المحسن لا يجود بدراهمه على الله، ولكنه يقرضه إياها قرضا حسنا، متى وضعها في يد الإنسانية الفقيرة، فمن أمسك عن الإحسان بخلا فإنما يشك في وعد الله، وإلا ففي قدرة الله، وإلا ففي الله نفسه؛ فأكبر البخل عند أكبر الكفر وأصغره عند أصغره! ويوم يخرج الإيمان من قلوب الأغنياء تخرج أرواح الفقراء من أجسامهم، فيموتون بالجوع وبالعري وبالمرض وغيرها من أسباب الموت، وكلها مظاهر متعددة لسبب واحد هو في الحقيقة كفر الأغنياء كفرا في الضمير لا كفرا في اللسان.
ومن هنا يا بني لا تجد الفقير في أي عصر من العصور إلا جهة من الخلل في نظام الاجتماع الإنساني، كما أن البخل جهة من الخلل في نظام النفس الإنسانية، والفراغ الذي يجده الفقير في بيته إنما هو موضع النعمة الضرورية التي بخل بها الغني، وهو في الحقيقة موضع التفكك أو الكسر في الآلة التي تديرها شريعة الاجتماع.
الإنسان إنما خلق اجتماعيا، وهو بشخصه لا قيمة له ولا منفعة إلا حيث يكون شخصه جزءا من مجموع؛ لأن اليد الواحدة في الجسم ولو كانت يد ملك، وكان فيها زمام العالم، فإنها لا يفارقها عيب أختها المقطوعة.
وكل خلل في النظام الإجتماعي فإنما مرده إلى طغيان بعض الأفراد، وجنوحهم إلى أن تكون شخصية الواحد منهم من الكبر والعظمة بحيث توازن المجموع كله أو أكثر المجموع؛ بيد أن هذه الموازنة الفردية متى اتفقت كانت إخلالا بالموازنة الاجتماعية؛ لأنها تجعل كل حركة من هذا الفرد زلزلة في المجموع، كالثقل في إحدى كفتي الميزان، إن خف سقطت الكفة الأخرى، وإن ثقل شالت، وهو السقوط إلى فوق!
والموازنة الاجتماعية لا تتهيأ إلا إذا تطبعت قوى المجموع
9
فاندفقت في تيار واحد إلى جهة معينة، ولكن الموازنة الفردية لا تستقيم إلا إذا جاءت من عكس هذه الجهة، فتصد قوة المجموع وتبقى دائما ذات قوة على صدها، ومن الغلبة فإن ضعف خصمه يعطيه منها أكثر مما تعطيه قوة نفسه، ولا يكون ضعف المجموع إلا من حصر الشخص العظيم قوة عقله ونفسه وضميره في هذا السبيل الفردي؛ لتكون منه الشخصية الهائلة التي تشبه ما كان في تاريخ الوثنية من شخصيات الآلهة وأنصاف الآلهة.
وقد اضطر الناس لذلك من عهد اجتماعهم في نظام أو شريعة إلى ابتداع الوسائل للتوفيق بين قوة الفرد وقوة المجموع، حتى لا يستشري الداء
10
في الموازنة الاجتماعية فيفسدها ويوقع الخلل في نظامها، ولكيلا تكون خيرات المجموع كلها في معدة واحدة، وحتى لا يبقى الناس أرقاما يعدهم الغني المستبد كما يعد دراهمه؛ لأنهم ثروته الحية!
Page inconnue