ليس في الأرض إنسان لا أجداد له، فمن ثم ليس على الأرض إنسان في نفسه بل إنسانية فقط، إنسانية متصلة مفرغة إفراغا ليس للفرد بينهما موضع لذاته، بل موضعه لاتصاله بسائرها كمنزلة الخلية الواحدة بين الملايين من الخلايا المتلازة في جسم واحد قائم من جميعها، صالح للوجود بصلاحها وفسادها معا.
أما إنها لعجيبة أن تلقي بسؤالين متناقضين لا يلتئمان، ثم لا تجد ولن تجد عليهما إلا جوابا واحدا لا يختلف، سل الحكمة: لم صلح هذا؟ فالجواب: ليكون شيئا ضروريا في الوجود. وسلها: لم فسد ذاك؟ فالجواب كذلك: ليكون شيئا ضروريا في الوجود. هي الحلقة المفرغة، لما غاب طرفاها صار كل موضع فيها طرفا، وعلت كلها ونزلت كلها.
فليس إلا النوع لا الفرد، والكل لا الجزء، والإنسانية لا الإنسان، وإنما يقع كل شيء في الحياة - بل في الوجود كله - تدريجا لتحقيق هذه الوحدة كيلا ينفصم أحد منها، فهي أبدا ذاهبة بالجسم والعقل والمعرفة والعمر من جزء إلى جزء، من الأصغر إلى الصغير، إلى الكبير إلى الأكبر، إلى الأوسع إلى الأسمى؛ لأن تلك هي علامتها في حركتها وتسحبها، وهي طريقة برهانها بالنهاية على أنها لا نهاية.
بيد أن خطأ الغريزة في الإنسان يظهر في اعتبار الفرد نفسه كلا تاما وشيئا متميزا، فلا يريد لنفسه إلا أمرا تاما ووجودا يتميز فيه، وبذلك يقتحم سواه ويستبيح وجوده، فيقع المنزاع والعدوان، وكأنه يضيق بمقدار ما لا يستطيع أن يتسع ؛ لأن دفعه لكل ما حوله مردود عليه بدفع مثله مما حوله، فتتبدل صورة الإنسانية في شكل دخله الغلط من كل جهاته، وههنا موضع الدين الصحيح، فما هو إلا الناموس القائم من كل إنسان على الواقع في ذاته، والواقع في غيره؛ ليصل بين الواقعين المختلفين بنظام مختلف متحد يكون له في النفس ما يكون لنظام المد والجزر.
وبهذا كان واجبا حتما أن تكون العقوبة جزءا من نعيم الدين، وأن يكون القيد شقا من حرية العقيدة، وإلا بطلت في الإيمان قوتا الجذب والدفع معا ببطلان إحداهما؛ لأن مدا بلا جزر هو أفحش الغرق من ناحية، وجزرا بلا مد هو أفحش الغرق من الناحية الأخرى.
تعجبني كلمة في الإنجيل لا أعرف أحدا أحسن تأويلها وبلغ حقيقتها. قال: «يجب أن تولدوا ثانية.» ووضعها في هذا المقال هو تفسيرها؛ فإن الفرد يولد من الفرد، ولكنه لا يصلح على ذلك، بل يجب أن يولد في صفاته وأخلاقه من المجموع الإنساني لتقع الملاءمة، ثم إنه من أبويه يخرج من الحيوانية بغرائزها، ولن يفلح بها إنسانا، فيجب أن يولد مرة أخرى من جنسه الاجتماعي بغرائز مكتسبة، ثم إنه يولد مهيأ للإقرار بنفسه وحدها، فيجب أن يولد الثانية مهيأ لإنكارها وحدها.
على هذه الأرض، إما الإقرار بالنفس وإيثارها والاعتداد بها، ومع كل ذلك الحيوانية والشيطان، وإما إنكارها والإيثار عليها والمهاونة بها، ومع كل هذه الإنسانية والله.
لن تطاق الحياة إلا إذا تبدلت فاتخذت لها أسلوبا غير أسلوبها الآتي من تركيب المادة، وإنما صراع الأرض كله حول إقامة هذا الأسلوب الجديد أو هدمه أو ترميمه؛ أسلوب الأخلاق والطباع الشديدة التي لا تطيقها الحيوانية فتسميها إنسانية، وتكبرها الإنسانية فتسميها الإيمان. بالأسلوب الأول تكونون بالحياة في موضعها، وبالثاني تسمون بالحياة عن موضعها؛ «فيجب أن تولدوا ثانية». •••
كل ما يراد به أن يسد في الإنسانية مسد الدين ويغني عنه، فإنما هو في رأيي كطعام أهل الجحيم، لا يطعمون فيها كما يطعمون في «نزل» لشبع وسمن، بل طعاما كما جاء في القرآن الكريم:
لا يسمن ولا يغني من جوع
Page inconnue