أن يقول القوي: إني أستطيع بحكم قوتي أن أرغم زميلي على أن يعمل أكثر من نصيبه، وأستطيع أن أعدل معه فأكلفه نصيبه فقط، ولكن سأعمل فوق ذلك، سأعمل نصيبي وأعينه على نصيبه، سأساعده في نصيبه لأنه أخي، ولأني لو كنت مكانه لتمنيت أن يعينني زميلي، فلأعاملة بما أحب أن أعامل به لو كنت مكانه، ولو كنت أنا الضعيف لتمنيت أن القوي يحمل عني بعض العبء، فلأحمل الآن بعض عبئه جريا مع القاعدة الذهبية «أحب لأخيك ما تحب لنفسك».
هذا هو «الإحسان» وهو موقف أشرف من العدل، وأعلى منه شأنا. (9) الإعتماد على النفس (9-1) معناه
من أهم الفضائل الإعتماد على النفس، ويمكن الإنسان أن يعودها من صغره، فلو أن الوالدين أفهما أطفالهما وجوب عنايتهم بأنفسهم في نظافة ملابسهم وانتظامها وأنهم هم المسئولون عن ذلك كان هذا بذرة للاعتماد على النفس.
ويستطيع الوالدان أن ينميا هذه الفضيلة بالإصغاء إلى ما يبديه الطفل من الأسئلة والإجابة عليها، وإظهارهما احترام آرائه ومناقشتها، وإبداء ما فيها من ضعف، في لطف، مهما كانت الأسئلة والآراء سخفية.
إذا سلك الوالدان هذا المسلك شعر الطفل بأن له شخصية محترمة ، فنما عنده حب السؤال، وحب تكوين الآراء، ولم يصبح ببغاء يردد فقط ما يسمع ويرى، وزاد عنده الشعور كذلك باحترام ما لغيره من شخصية، فهو يعامل اصدقاءه وزملاءه بالطريقة التي يعامله بها أبواه، فيصغي للآراء المخالفة لرأيه، وينقدها في أدب، فيزيد ذلك في نمو شخصيته واستقلاله.
كذلك مما يعين على نمو هذه الفضيلة أن يجعل الوالدان لأولادهم «مالية خاصة» يستولون عليها، ويتصرفون فيها بحريتهم، ثم يصحح الوالدان ما ارتكب الأطفال من أخطاء فيها، وهذا هو الطريق الوحيد لتدريبهم على تحمل المسؤولية، وشعورهم بالشخصية، فبيع الأطفال وشراؤهم، ونجاحهم أحيانا وغبنهم أحيانا، يجنبهم الخطأ في المستقبل، وأكبر برهان على ما نقول ما نرى من شبان حرموا المال في صغرهم ثم أعطوه دفعة واحدة في شبابهم فأساءوا التصرف، ووقعوا في أضرار جسيمة، لأنهم لم يدربوا التدريب الكافي منذ نشأتهم.
فإذا ذهب الطفل إلى المدرسة، وعوده المعلمون الإستقلال بنفسه في بعض أعماله، كحل بعض المسائل الحسابية، والكشف في المعاجم عن الكلمات التي لم يفهمها، وتركوه ونفسه يفكر في المعضلات، ويتفهم بعض الجمل الصعبة التي تعترضه نمت عنده هذه الفضيلة.
إن من اعتاد ألا يتحمل شيئا من العبء بل ترك غيره يحمل عنه عبأه لا يستطيع بعد السير في الحياة، فالتلميذ الذي ينتظر جاره حتى يحل المسائل ثم ينقلها منه، أو ينتظر المدرس دائما حتى يشرح له ما غمض عليه لا يمكن أن يأتي يوم يكون فيه متعلما حقا، فالشجرة التي تسندها دائما على حائط لا تحمل نفسها، إنما الشجرة التي نمت بنفسها، واعتمدت على ذاتها هي التي تقاوم العواصف، وتكون أصلح للبقاء.
والإعتماد على النفس وسيلة من وسائل الإقتصاد، فالأم التي تعتمد في كثير من شؤون بيتها على نفسها تقتصد كثيرا، والرجل الذي عود نفسه أن يصلح الأشياء الصغيرة في بيته يوفر كثيرا، وهكذا.
كذلك هو الوسيلة الوحيدة للتعلم، فالطفل لا يستطيع أن يتعلم المشي إلا إذا اعتمد على نفسه وسقط ثم قام، ولا يستطيع أحد أن يتعلم السباحة بقراءة كتاب فيها، إنما يتعلم ذلك باعتماده على نفسه وفشله مرة ونجاحه أخرى، وإنما نتعلم القراءة والكتابة بمحاولاتنا، فإذا اقتصرنا على أن نسمع غيرنا يقرأ، ونظرنا غيرنا يكتب، فمحال أن نقرأ أو نكتب، وهكذا الشأن في كل علم.
Page inconnue