وعلى الجملة فالشجاع ليس بالمتهور الطائش الذي لا يخاف مما ينبغي أن يخاف منه، ولا بالجبان الذي يخاف مما لا يخاف منه.
وليست الشجاعة مقصورة على حمل السلاح ومشاهدة الحروب، بل إن كثيرا من الأعمال اليومية يحتاج إلى شجاعة لا تقل عن شجاعة الجنود، فرجال المطافئ، والأطباء، وعمال المناجم، وصيادو الأسماك في البحار عند اشتداد الرياح وتلاطم الأمواج، والممرضات اللائي يتعرضن للأخطار بتمريض المصابين بالأمراض المعدية، وربانو السفن التجارية، كل هؤلاء وأمثالهم شجعان يتحملون الأخطار كما يتحمل الجنود، ويقابلون الشدائد في صبر وثبات.
ومن أكبر مظاهر الشجاعة حضور الذهن عند الشدائد، فشجاع من إذا عراه خطب لم يذهب برشده، بل يقابله برزانة وثبات، ويتصرف فيه بذهن حاضر، وعقل غير مشتت، قد يرى إنسان نارا تلتهم بيته، أو لصا يغشى منزله، أو قطارا يكاد يهشم رجلا، أو سفينة أشرفت على الغرق، فإن فقد رشده، وأضاع صوابه، وحار طرفه، ودله عقله، ولم يدر ماذا يفعل، كان جبانا. وإن هو ملك نفسه، وثبت قلبه، وتصرف في الأمر على أحسن وجه، كان شجاعا حقا. كالذي حكى عن عبد الملك بن مروان أنه أتاه في يوم واحد خبر مقتل ابن زياد، وهزيمة جيشه، ودخول ابن الزبير فلسطين، وثوران ثورة في دمشق، ومسير ملك الروم إلى الشام، فما تزعزع ولا طاش، وقد رؤي في هذا اليوم ثابت الجنان، غير مقطب الوجه، ثم شغل ملك الروم بمال يؤديه إليه، ووجه جيشا إلى فلسطين فاستردها، وسار إلى دمشق فأسكن فتنتها. (6-2) الشجاعة الأدبية
لما تقدم الناس في المدنية لم يكونوا في حاجة كبرى إلى الشجاعة البدنية كما كانوا يحتاجون إليها أيام بداوتهم، فظهر للشجاعة معنى جديد يسمونه الشجاعة الأدبية، يعنون بها أن يبدي الإنسان رأيه وما يعتقد أنه الحق مهما ظن الناس به، أو تقولوا عليه، ومهما جر ذلك عليه من غضب عظيم، لا يخاف من تحمل ألم يصيبه في سبيل قول حق يقوله، أو مبدأ هام ينشره، فلو رأى في مسألة غير ما يراه علماء وقته أو من حوله من الناس، أو خالف حاكما أو عظيما، جاهر برأيه غاضا عما يناله من الأذى، يقول الحق بأدب وإن تألم منه الناس، ويعترف بالخطأ وإن نالته عقوبة، ويرفض العمل بما لا يراه صوابا ولو لم يقع رفضه موقعا حسنا.
والتاريخ مملوء بكثير من الناس ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل قول الحق ونصرته، وصبروا على الآلام عشقا للحق وهياما به، واستعذبوا طعم الرزايا تنزل بهم لأنهم يحبون الحق أكثر مما يحبون أنفسهم، ومنهم الأنبياء والمرسلون والشهداء ونوابغ العلماء، فقد أوذوا في الحق فتحملوا الأذى، وباعوا أنفسهم وأموالهم مرضاة له، كالذي حكى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقد جاء إليه عمه أبو طالب ينصحه بالعدول عن دعوة الناس فقال له: «يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته».
ومن هؤلاء «سقراط» الفيلسوف اليوناني، فقد علم شبان أثينا ما وصل إليه علمه، وبذل جهده في تثقيف عقولهم وتقويم أخلاقهم، فلما بلغ سن السبعين أتهم بأنه يجحد آلهة اليونان، ويضلل الشبان، فحكم عليه بالإعدام، وكان في استطاعته أن ينجو بنفسه إذا هو تعهد أن ينقطع عن التعليم، ولكنه أصر على قول الحق وأضاع نفسه.
وفي تاريخ العرب كثير من أمثال ذلك «فابن رشد» الفيلسوف الشهير المتوفى في سنة 595ه اضطهد من أجل اشتغاله بالفلسفة، وسجن ونفى فلم يعبأ بذلك كله. «وابن تيمية» أحد الفقهاء المشهورين المتوفي سنة 728ه أداه اجتهاده إلى مخالفة فقهاء عصره في بعض المسائل فوشوا به إلى السلطان فسجنه، فظل يكتب الرسائل في سجنه يؤيد بها مذهبه، ويدحض بها حجج معارضيه.
وفي العصور الحديثة لولا أن قوما من العلماء ضحوا كثيرا في قول الحق ما تقدم العلم والمدنية إلى الحد الذى نراه «فجاليليو » الفلكي الإيطالي (1564-1643م) اخترع التلسكوب فرأى به أن المجرة ليست إلآ نجوما كثيرة، وأن في القمر جبالا وأودية كالتي في الأرض، ورأى به كلف الشمس، وكان يعلم أن الأرض تدور حول الشمس مخالفا لتعاليم «بطليموس» القائلة بأن الأرض هي مركز الكون، فاضطهده من أجل ذلك بعض القسيسين، وأمروه بالكف عن تعاليمه، فلم يستطع الصبر عن الحق، فأخذ وسجن وعذب كثيرا من أجل تعاليم يعرفها كل تلاميذ المدارس اليوم. «ودارون» الفليسوف الإنجليزي (1809-1882م) لم يعذب كما عذب من قبله بسجن أو نفي أو قتل، ولكنه عذب بالإنتقاد المر من رجال عصره فتحمله، وأبان الطريقة التي اتبعها النبات والحيوان في نشوئه وارتقائه، ولم يقعد به ضعف صحته عن البحث وراء الحقيقة، فكان على الرغم من مرضه وألمه يجري التجارب ويجتهد أن يتعلم دائما أشياء جديدة عن الدنيا التي يعيش فيها، «وكامبانلا» الفيلسوف الإيطالي (1568-1639م) قد أغضب بعض القسيسين والأمراء بتعاليمه الجديدة، فقد كان يقول: إننا نستطيع أن نتعلم من امتحان الأشياء التي حولنا كالأشجار والأزهار والجبال والأنهار أكثر مما نتعمله من كتب الفلاسفة القدماء أمثال «أرسطو» وكان يقول: إن هناك نظاما للحكم خيرا من النظام الحاضر لا يستبد فيه الحكام بالشعب، وقد سجن من أجل أقواله هذه، وعذب عذابا شديدا، واستمر في الحبس خمسا وعشرين سنة، ثم أفرج عنه.
Page inconnue