وقالوا: إن الحق أننا نعرف الخير والشر من غير أن نقيسه باللذة والألم، وأننا نحكم على الصدق والعدل والشجاعة بأنها خير وعلى أضدادها بأنها شر لا بالنظر إلى نتائجها وما يتبعها من نفع وضر، ولكن لصفات ذاتية فيها، فالصدق خير في ذاته، والكذب شر في ذاته، من غير أن نحسب حساب ما ينتج عنهما.
وأن في كل إنسان قوة غريزية باطنة، بها يميز بين الخير والشر بمجرد النظر، منحناها كما منحنا العين لنبصر بها والأذن لنسمع بها، فكما نستطيع إذا نظرنا إلى شيء أن نقول: إنه أبيض أو أسود (من غير تعليل) وأنه طويل أو قصير، وإذا سمعنا صوت موسيقى أن نقول: إنه جميل أو قبيح، كذلك نستطيع إذا رأينا عملا من الأعمال أن نقول : إنه خير أو شر.
وقد تختلف هذه القوة اختلافا قليلا باختلاف العصور والبيئات، ولكنها متأصلة في نفس كل إنسان، فهو إذا نظر إلى شيء حصل عنده نوع من الإلهام يعرفه قيمته فيحكم عليه بأنه خير أو شر، ومن أجل هذا اتفق أكثر الناس على عد الصدق والكرم والشجاعة والعدل فضائل، كما اتفقوا على عد أضدادها رذائل، ألا ترى إلى الأطفال يحكمون على الكذب بأنه شر من غير إعمال فكر، ويحتقرون السارق، ويعدون السرقة جريمة ولو لم يكن لهم من النظر البعيد ما يرون به الآلام التي تحيق بالمجتمع من وراء الكذب أو السرقة، وكذلك القبائل التي لم تأخذ بحظ من المدنية، وليس عندهم نظر دقيق يقيسون به ما ينتج من اللذائذ والآلام يكادون يتفقون على الفضائل والرذائل.
هذه القوة التي في طبائعنا نسميها «اللقانة» ونسمي المذهب القائل بها «مذهب اللقانة».
وقد تصاب هذه القوة بالمرض فترى الخير شرا والشر خيرا، كما تصاب العين فلا تدرك بعض الألوان، أو تحكم على الواحد بأنه اثنان، وكما تصاب القوة العقلية فتحكم أحكاما خطأ ولكن العين السليمة والعقل السليم يصححان هذا الخطأ كذلك اللقانة قد تخطئ ولكن اللقانة السليمة تدرك هذا الخطأ وتصححه.
ويمتاز هذا المذهب عن مذهب السعادة بنوعيه بأنه: (1)
يرى الفضائل فضائل في جميع الظروف، وفي كل زمان ومكان، وليس كونها فضيلة تابعا لغاية إذا وصلت إليها كان خيرا وإن لم توصل كانت شرا. (2)
إن الفضائل أمور بديهية ليست في حاجة إلى البرهنة على صحتها. (3)
وأنها ليست محلا للشك، فمن المحال أن نرى يوما ما أن ضدها هو الخير وأنها هي الشر.
وهذه القوة في طبيعة كل الأنواع البشرية، العالي منها والسافل، ولسنا نعني أنها على درجة واحدة من الرقي، وإنما نعني أنها طبيعية في الناس جميعا كحاسة السمع والنظر، وإن اختلفت قوة وضعفا، وأنها ككل ملكات الإنسان قابلة للترقية بالتربية.
Page inconnue