بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أصعد قوالب الأصفياء بالمجاهدة، وأسعد قلوب الأولياء بالمشاهدة، وحلى ألسنة المؤمنين بالذكر، وجلى خواطر العارفين بالفكر، وحرس سواد العباد عن الفساد، وحبس مراد الزهاد على السداد، وخلص أشباح المتقين من ظلم الشهوات، وصفى أرواح الموقنين عن ظلم الشبهات، وقبل أعمال الأخيار بأداء الصلوات، وأيد خصال الأحرار بإسداء الصلات. أحمده حمد من رأى آيات قدرته وقوته، وشاهد الشواهد من فردانيته ووحدانيته، وطرق طوارق سره وبره، وقطف ثمار معرفته من شجر مجده وجوده، وأشكره شكر من اخترق واغترف من نهر فضله وإفضاله، وأومن به إيمان من آمن بكتابه وخطابه، وأنبيائه وأصفيائه، ووعده ووعيده، وثوابه وعقابه.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: بعثه لأصلاب الفسقة والفجرة قاسمًا، ولعرى الجاحدين والمارقين فاصمًا، ولباغي الشك والشرك قاهرًا، ولأتباع الحق والإحسان ناصرًا؛ فصلوات الله عليه، وعلى آله، وأصحابه أجمعين.

1 / 121

فصل في معرفة النفس اعلم أن مفتاح معرفة الله تعالى هو معرفة النفس، كما قال ﷾: (سَنُريهِم آياتِنا في الآفاقِ وَفي أَنفُسِهِم حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقُّ) . وقال النبي ﷺ:) من عرف نفسه فقد عرف ربه (. وليس شيء أقرب إليك من نفسك، فإذا لم تعرف نفسك، فكيف تعرف ربك؟ فإن قلت: إني أعرف نفسي! فإنما تعرف الجسم الظاهر، الذي هو اليد والرجل والرأس والجثة، ولا تعرف ما في باطنك من الأمر الذي به إذا غضبت طلبت الخصومة، وإذا اشتهيت طلبت النكاح، وإذا جعت طلبت الأكل، وإذا عطشت طلبت الشرب. والدواب تشاركك في هذه الأمور. فالواجب عليك أن تعرف نفسك بالحقيقة؛ حتى تدرك أي شيء أنت، ومن أين جئت إلى هذا المكان، ولأي شيء خلقت، وبأي شيء سعادتك، وبأي شيء شقاؤك. وقد جمعت في باطنك صفات: منها صفات البهائم، ومنها صفات السباع، ومنها صفات الشياطين، ومنها صفات الملائكة، فالروح حقيقة جوهرك وغيرها غريب منك، وعارية عندك. فالواجب عليك أن تعرف هذا، وتعرف أن لكل واحد من هؤلاء غذاء وسعادة. فإن سعادة البهائم في الأكل، والشرب، والنوم، والنكاح، فإن كنت منهم فاجتهد في أعمال الجوف والفرج. وسعادة السباع في الضرب، والفتك. وسعادة الشياطين في المكر، والشر، والحيل. فإن كنت منهم فاشتغل باشتغالهم. وسعادة

1 / 124

الملائكة في مشاهدة جمال الحضرة الربوبية، وليس للغضب والشهوة إليهم طريق. فإن كنت من جوهر الملائكة، فاجتهد في معرفة أصلك؛ حتى تعرف الطريق إلى الحضرة الإلهية، وتبلغ إلى مشاهدة الجلال والجمال، وتخلص نفسك من قيد الشهوة والغضب، وتعلم أن هذه الصفات لأي شيء ركبت فيك؛ فما خلقها الله تعالى لتكون أسيرها، ولكن خلقها حتى تكون أسرك، وتسخرها للسفر الذي قدامك، وتجعل إحداها مركبك، والأخرى سلاحك؛ حتى تصيد بها سعادتك. فإذا بلغت غرضك فقاوم بها تحت قدميك، وارجع إلى مكان سعادتك. وذلك المكان قرار خواص الحضرة الإلهية، وقرار العوام درجات الجنة. فتحتاج إلى معرفة هذه المعاني؛ حتى تعرف من نفسك شيئًا قليلًا؛ فكل من لم يعرف هذه المعاني فنصيبه من القشور؛ لأن الحق يكون عنه محجوبًا. فصل كيف تعرف نفسك؟ إذا شئت أن تعرف نفسك، فاعلم أنك من شيئين: الأول: هذا القلب، والثاني: يسمى النفس والروح. والنفس هو القلب الذي تعرفه بعين الباطن، وحقيقتك الباطن؛ لأن الجسد أول وهو الآخر، والنفس آخر وهو الأول. ويسمى قلبًا. وليس القلب هذه القطعة اللحمية التي في الصدر من الجانب الأيسر؛ لأنه يكون في الدواب والموتى. وكل شيء تبصره بعين الظاهر فهو من هذا العالم الذي يسمى عالم الشهادة. وأما حقيقة القلب، فليس من هذا العالم، لكنه من عالم الغيب؛ فهو في هذا العالم غريب، وتلك القطعة اللحمية مركبة، وكل أعضاء الجسد عساكره وهو الملك، ومعرفة الله ومشاهدة جمال الحضرة صفاته، والتكليف عليه، والخطاب معه، وله الثواب، وعليه العقاب، والسعادة والشقاء تلحقانه، والروح الحيواني في كل شيء تبعه ومعه. ومعرفة حقيقته، ومعرفة صفاته، مفتاح معرفة الله سبحانه وتعال؛ فعليك بالمجاهدة حتى تعرفه؛ لأنه جوهر عزيز من جنس جوهر الملائكة، وأصل معدنه من الحضرة الإلهية، من ذلك المكان جاء، وإلى ذلك المكان يعود.

1 / 125

ما حقيقة القلب؟ أما سؤالك: ما حقيقة القلب؟ فلم يجئ في الشريعة أكثر من قول الله تعالى: (وَيَسأَلونَكَ عَنِ الروحِ قُلِ الروحُ مِن أَمرِ رَبّي) .. لأن الروح من جملة القدرة الإلهية، وهو من عالم الأمر، قال الله ﷿: (أَلا لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ) . فالإنسان من عالم الخلق من جانب، ومن عالم الأمر من جانب؛ فكل شيء يجوز عليه المساحة والمقدار والكيفية فهو من عالم الخلق. وليس للقلب مساحة ولا مقدار؛ ولهذا لا يقبل القسمة، ولو قبل القسمة لكان من عالم الخلق، وكان من جانب الجهل جاهلًا ومن جانب العلم عالمًا، وكل شيء يكون فيه علم وجهل فهو محال. وفي معنى آخر هو من عالم الأمر؛ لأن عالم الأمر عبارة عن شيء من الأشياء لا يكون للمساحة والتقدير طريق إليه. وقد ظن بعضهم:) أن الروح قديم (فغلطوا. وقال قوم:) إنه عرض (، فغلطوا؛ لأن العرض لا يقوم بنفسه، ويكون تابعًا لغيره. فالروح هو أصل ابن آدم، وقالب ابن آدم تبع له؛ فكيف يكون عرضا؟! وقال قوم:) إنه جسم (، فغلطوا؛ لأن الجسم يقبل القسمة. فالروح الذي سميناه قلبا، وهو محل معرفة الله تعالى، ليس بجسم، ولا عرض، بل هو من جنس الملائكة. ومعرفة الروح صعبة جدًا؛ لأنه يرد في الدين طريق إلى معرفته؛ لأنه لا

1 / 126

حاجة في الدين إلى معرفته؛ لأن الدين هو المجاهدة، والمعرفة علامة الهداية كما قال سبحانه وتعال: (وَالَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا) . ومن لم يجتهد حق اجتهاده لم يجز أن يتحدث معه في معرفة حقيقة الروح. وأول أس المجاهدة أن تعرف عسكر القلب؛ لأن الإنسان إذا لم يعرف العسكر لم يصح له الجهاد. فصل لماذا خُلق القلب؟ اعلم أن النفس مركب قلب، وللقلب عساكر، كما قال ﷾: (وَما يَعلَمُ جُنودَ رَبِّكَ إِلّا هُوَ) . والقلب مخلوق لعمل الآخرة طلبا لسعادته، وسعادته معرفة ربه ﷿، ومعرفة ربه تعالى تحصل له من صنع الله، وهو من جملة عالمه، ولا تحصل له معرفة عجائب العالم إلا من طريق الحواس، والحواس من القلب، والقالب مركبه. ثم معرفة صيده، ومعرفة شبكته، والقالب لا يقوم إلا بالطعام، والشراب، والحرارة، والرطوبة. وهو ضعيف على خطر من الجوع والعطش في الباطن، وعلى خطر من الماء والنار في الظاهر، وهو مقابل أعداء كثيرة.

1 / 127