وخشي الطبيب على الملك من الجهد الذي يبذله في الكلام وأشار عليه بالسكوت، ولكن الملك كان يندمج في إحساس علوي هو الفاصل بين الفناء والخلود، فقال بصوت تغيرت نبراته وبدا غريب الوقع: قل لتوتيشيري إني لحقت بأبي باسلا مثله.
ومد يده لابنه، فجثا الأمير على ركبتيه وضمها إلى صدره، وقبض الملك على منكبه حينا يودعه، ثم تراخت أصابعه وأسلم الروح.
4
وسجى الطبيب الجثة، وسجد الرجال حولها وصلوا صلاة الوداع، ثم قاموا وكأنهم من الحزن سكارى، واستدعى الحاجب حور قواد الفرق وكبار الضباط، فلما مثلوا بين يديه خاطبهم قائلا: أيها الرفاق، يؤسفني وحق الرب أن أنعى إليكم مليكنا الباسل كاموس، فقد استشهد في ميدان الكفاح وفي سبيل مصر كما استشهد أبوه من قبل، وانتقل إلى جوار أوزوريس منتزعا من صميم نفوسنا، بعد أن أوصانا بألا نكف عن الكفاح حتى تسقط هواريس ويجلو العدو عن ديارنا، وإني بوصفي حاجب هذه الأسرة الكريمة أعزيكم في مصابنا الجلل، وآذنكم بتولية مليكنا الجديد وقائدنا المجيد أحمس بن كاموس بن سيكننرع حفظه الرب وأيده بالنصر المبين!
فحيا القواد جثة كاموس وانحنوا لأحمس الملك الجديد، وأذن لهم الحاجب بالعودة إلى جنودهم لإعلان الوفاة والتولية.
وأمر حور الجنود أن يرفعوا الهودج الملكي على الأعناق وقد غلبه الحزن، فقال وهو يجفف عينيه: لتنعم نفسك العالية بالغبطة والسلام في جوار أوزوريس، كنت على وشك أن تدخل أمبوس على رأس جيشك المظفر، ولكن قضى الرب أن تدخلها محمولا على نعشك، وإنك لأكرمنا على الحالين!
ودخل الجيش أمبوس في نظامه التقليدي يتقدمه نعش الملك كاموس، وكان الخبر الفاجع قد شمل المدينة كلها، فجرعت لذة النصر ولوعة الحزن في شربة واحدة، وجاءت الجموع الغفيرة من كل مكان تستقبل جيش الخلاص وتودع مليكها الراحل بقلوب تحيرت بين الفرح والحزن، ولما رأى الناس الملك الجديد أحمس سجدوا في سكون وخشوع، ولم يتعال في ذلك اليوم هتاف قط .. وتسلم كهنة أمبوس الجثمان العظيم وخلا أحمس إلى نفسه فكتب رسالة إلى توتيشيري كما أوصاه أبوه، وبعث بها مع رسول.
وجاءت رسل الاستطلاع بأخبار سارة ومؤسفة عن الأسطول، قالوا: إن الأسطول المصري هزم أسطول الرعاة وأسر بعض وحداته، ولكن القائد قمكاف سقط قتيلا، وأن الضابط أحمس أدار دفة المعركة بعد سقوط القائد، وحاز النصر النهائي، وقتل قائد الرعاة بيده في معركة عنيفة، وأراد الملك أن يكافئ أحمس إبانا، فأصدر أمره بتوليته قيادة الأسطول.
واتبع سياسة أبيه الحكيمة فولى صديقه هام حكم أمبوس، وعهد إليه بتنظيمها وتجنيد القادرين من أهلها، وقال الملك لحور : سنتقدم بقواتنا سريعا، لأنه إذا كان الرعاة يعذبون قومنا في وقت السلام فإنهم سيضاعفون لهم العذاب في وقت الحرب، فينبغي أن نقصر عهد العذاب ما وسعنا الجهد.
واستدعى الملك الحاكم هام، وقال له أمام حاشيته وقواده: اعلم أنني آليت على نفسي منذ اليوم الذي سعيت فيه إلى أرض مصر في ثياب التجار أن أجعل مصر للمصريين؛ فليكن هذا شعارك في حكم هذا البلد؛ وليكن رائدك أن تطهره من البيض، فلن يحكم بعد اليوم إلا مصري، ولن يملك إلا مصري، والأرض أرض فرعون والفلاحون نوابه في استثمارها، لهم ما يكفيهم ويكفل لهم حياة رغدة، وله ما يفيض عن حاجتهم ينفقه في الصالح العام، والمصريون متساوون أمام القانون، لا يرفع الأخ منهم إلا فضله، ولا عبد في هذا البلد إلا الرعاة .. وأوصيك أخيرا بجثة أبي فأد إليها واجبها المقدس.
Page inconnue