وكانت المرأة محافظة على هدوئها، كأن اليأس من الإنصاف أكسبها أمانا من الخوف، فقالت بهدوء: إن قول هذا الرجل لا ينطبق على الحقيقة!
فغضب القاضي، وقال منتهرا إياها: حاذري أن تقولي قولا ينال من مقام المشتكي العظيم فتضاعف جريمتك، قصي ودعي الحكم لنا.
فاحمر وجه المرأة ارتباكا، وقالت وهي ما تزال تحافظ على هدوئها: كنت أسير في طريقي إلى حي الصيادين، فإذا عربة تعترض سبيلي وينزل منها ضابط فيدعوني إلى الركوب دون إمهال ولا سابق معرفة، فارتعت وأردت أن أتحاماه، ولكنه أمسك بيدي وقال لي إنه يشرفني بضمي إلى نسائه فقلت له إني أرفض ما يعرضه علي، ولكنه سخر مني، وقال لي إن رفض المرأة الظاهري عين القبول.
وأشار إليها القاضي إشارة أسكتتها، وكأنما ساءه أن تأتي على تفاصيل تحرج مقام الضابط، فسألها: أجيبي هل اعتديت عليه؟ - كلا يا سيدي، لقد أصررت على رفضي، وحاولت التملص من يده، ولكني لم أعتد عليه لا بيدي ولا بلساني، ويشهد على قولي هذا جمع غفير من أهل الحي. - أتعنين الصيادين؟ - نعم يا سيدي. - هؤلاء لا تقبل شهادتهم في هذا المكان المقدس.
فسكتت المرأة، ولاحت في عينيها نظرة حيرة وارتباك، فسألها القاضي: أليس لديك ما تقولينه غير ذلك؟ - كلا يا سيدي، وأقسم أني ما آذيته بقول أو فعل! - إن المدعي عليك شخص كبير، وقائد من قواد الحرس الفرعوني، وقوله حق حتى تقيمي الدليل على نقضه. - وكيف لي بنقضه، وقد رفضت المحكمة الإصغاء إلى شهودي؟
فقال القاضي بغضب: إن الصيادين لا يدخلون هذا المكان، إلا إذا سيقوا إليه متهمين!
وأعرض الرجل عنها، وعدل إلى رفاقه القضاة وتبادل معهم الرأي حينا، ثم اعتدل في جلسته وقال موجها كلامه إلى السيدة إبانا: أيتها المرأة، لقد أراد بك القائد خيرا فجازيته أسوأ الجزاء، والمحكمة تخيرك بين دفع خمسين قطعة من الذهب، أو السجن ثلاثة أعوام والجلد!
وأصغى الحاضرون إلى الحكم فبدا الرضى على الوجوه جميعا، إلا واحدا صاح بصوت ثائر كأنما أفلت منه الزمام: سيدي القاضي .. هذه السيدة مظلومة بريئة .. فأطلق سراحها .. اعف عنها إنها مظلومة!
ولكن القاضي استولى عليه الغضب، وحدج الصارخ بنظرة أسكتته، وتوجهت إليه الأنظار من كل صوب فعرفه إسفينيس، وقال لصاحبه دهشا: إنه الشاب الذي أغضبه حديثنا معه، واتهمنا بأننا عبيد الرعاة!
وكان إسفينيس مغضبا متألما، فاستدرك يقول: لن أدع هذا القاضي الأحمق يزج بهذه السيدة في السجن.
Page inconnue