وحين أخذت تبدو بشائر النور، جاء رجل من الكشافة وأبلغ الملك أن الأسطول المصري اشتبك مع أسطول الرعاة في معركة حامية شمال كبتوس، فقال الملك لقائد جيشه:
جنود وراء مواقعنا.
فقال القائد بيبي: إن الرعاة يا مولاي لا يتقنون فن القتال على سطوح السفن، وسيبتلع النيل المقدس جثث جنودهم، ويبتلع أمل أبوفيس في حصارنا.
كانت ثقة سيكننرع في رجال أسطول طيبة عظيمة، ولكنه أوصى قائد الكشافة أن يكون على اتصال دائم بميدان المعركة البحرية، وجعل الظلام ينقشع والصبح يسفر، والميدان يتجلى للأعين الفاحصة، فرأى سيكننرع جنوده الرماة والقسي في أيديهم، والعجلات المعدودة تتحفز إلى جانبهم للقتال، ورأى في الناحية الأخرى جيش الرعاة ينتشر انتشار الغبار الثائر، وكان العدو ينتظر سفور الصبح، فما عتمت أن تحركت قوات العجلات استعدادا للمعركة، ثم انقضت قوات منها على بعض الأماكن المحصنة الأمامية فتطايرت السهام وصهلت الخيل وصرخ المتقاتلون، وتدافعت قوات أخرى، فاشتبكت مع الرماة المصريين وبعض العجلات المصرية في قتال عنيف، فصاح سيكننرع: الآن تبدأ معركة طيبة.
فقال بيبي بصوت قوي النبرات: نعم يا مولاي، وقد بدأ جنودنا بدءا حسنا.
وصوبت الأبصار جميعا إلى الميدان تشاهد سير المعركة، فرأوا عجلات الرعاة تهاجم صفا ثم تتفرق جماعات شتى، وتهجم على الرماة بعنف وسرعة، وتنقض على ما يعترض لها من العجلات المصرية، وكان القتلى يسقطون من الجانبين سراعا في استبسال وشجاعة، وبدت قوة الرماة وشدة بأسهم، فكانوا يثبتون للهاجمين ويصيدون فرسانهم وجيادهم ويفتكون بهم فتكا ذريعا، حتى صاح بيبي قائلا: لو دام القتال على هذا النحو، فسنتفوق على فرقة العجلات في أيام قلائل.
على أن قوات الرعاة كانت تهجم وتقاتل، ثم ترتد إلى معسكرها وتنقض غيرها كي لا تنهك قواها، على حين كان المصريون يدافعون دون سكوت أو راحة وهم ثابتون في مراكزهم، وكان سيكننرع كلما رأى فارسا من فرسانه يسقط أو عجلة من عجلاته تتعطل يصيح غاضبا: وا أسفاه، ويدرك أتم إدراك ما ينزل بجيشه من الخسارة، وأخذ عدد الوحدات التي يهجم بها الرعاة يتضاعف، كانوا يهجمون ثلاثا ثلاثا، ثم هجموا ستا ستا، ثم عشرا عشرا، واشتد القتال وحمي وطيسه، واطرد عدد عجلات الهكسوس في الزيادة، حتى ساور سيكننرع القلق، وقال لبيبي: لا بد من مواجهة زيادة قوات العدو بما يعيد إلى الميدان اتزانه. - ولكن يا مولاي ينبغي الاحتفاظ بعجلاتنا الاحتياطية حتى آخر الموقعة. - ألا ترى أن العدو يكر علينا كل فترة يسيرة بقوات جديدة متحفزة للقتال؟ - إني أدرك الخطة يا مولاي، ولكننا لا يمكن أن نجاريه فيها لوفرة عجلاته الاحتياطية وقلة عجلاتنا!
فصر الملك بأسنانه وقال: لم نكن نتوقع قط أن تكون له هذه الغلبة في العجلات، ومهما يكن فلا يمكنني أن أترك الرماة بلا نجدة، فليس في جيشي رماة سواهم.
وأمر الملك بهجوم عشرين عجلة في خمس وحدات، فانقضت كالنسور الكواسر، وبعثت في الميدان حياة جديدة، ولكن أبوفيس أراد أن يرد على حملة سيكننرع الجديدة ردا قاسيا، فأرسل إلى الميدان عشرين وحدة، قوام كل وحدة خمس عجلات، فزلزلت الأرض بصلصلتها، وملأت الفراغ بجبال من غبار ثائر، واستطارت المعركة وجرت الدماء كالنهر، وتقدم الوقت وهي لا تهدأ أو تخف وطأتها حتى توسطت الشمس كبد السماء، وجاء بعد ذلك رجال الكشافة وآذنوا الملك بارتداد أسطول الرعاة بعد أن فقد في الأسر سفينتين، وغرقت له سفينة أخرى، فجاء نبأ النصر في وقته ليشد من عزيمة المصريين ويثبت قلوبهم، وأذاعه الضباط في الفرق المقاتلة والتي تنتظر أن يجيء دورها في الكفاح، فكان له صدى فرح في الصدور، وفورة حماس في القلوب، ولكن صك ذاك الخبر آذان أبوفيس كذلك، فاستولى عليه الغضب، وغير خطته البطيئة في الحال، وأصدر أمره إلى قوة العجلات بالهجوم والانتقام، ورأى سيكننرع سيلا عرمرما من العجلات ينقض على رماته البواسل من كل مكان، وينشب فيهم أظافره الحادة، وارتاع الملك أيما ارتياع، وصاح قائلا بغضب شديد: إن قواتنا التي نهكها النضال الدائم، لا يمكن أن تثبت وحدها لهذا السيل من العجلات!
ثم التفت إلى قائد جيشه، وقال بعزم وإصرار: سنخوض معركة فاصلة بالقوات التي بين أيدينا، فمر ضباطنا البواسل بالهجوم بفرقهم، وبلغهم رجائي أن يقوم كل بواجبه جنديا من جنود طيبة الخالدة!
Page inconnue