وابتسم، ولم يجد نديم مناصا من أن يبتسم هو أيضا فقد انتهى اللقاء نهاية أجمل بكثير مما كانت تنبئ عنه بدايته. وخرج نديم وأقفل الباب ونظر إلى الحاجب وقال له في هدوء: يستطيع البك الآن أن يقابل من يريد مقابلته. •••
أنا لست في حاجة الآن أن أعيد عليك هذا المشهد وقد تكرر بين فرغلي وابن عمته ممدوح طبيب الشركة الذي كان يتقاضى رشاوى عن الإجازات، ويتقاضى رشاوى من الأطباء الذين يحول إليهم عمليات الشركة.
ولست في حاجة أيضا أن أعيد المشهد ثالثة وهو يملي شروطه على ابن عمته الثاني المهندس يحيى الذي كان ينال مبالغ ضخمة عند استيراد مواد البناء وعند الاتفاق مع المقاولين الذين يعملون معه في عمليات الشركة.
فكلاهما كان يكتب الإقرارات، وكلاهما كان يقدم نصيبا يحدده فرغلي حسب ما يحلو له. •••
ليس غريبا أن يكون المال ذا أهمية كبرى عند فرغلي، ولكن الحقيقة التي ينبغي لها أن تطفو هنا أمام عينيك هي أن المال لم يكن هو أهم ما كان يستمتع به فرغلي وهو يتم الصفقات مع صديقه وابني عمته ... كان أهم ما يستمتع به أنه أصبح يمسك برقاب ثلاثتهم في أصابعه ليصنع بهم ما يشاء. والأعظم من ذلك أن أحدا منهم لا يستطيع أن يستقيل؛ فالأمر لم يعد مجرد وظيفة وإنما أصبح اختيارا بين الوظيفة ... هذه الوظيفة بالذات ومع فرغلي بالذات وبين السجن ... أصبح الأمر اختيارا بين الحياة أو الموت إن جاز أن يسمي هذا اختيارا.
وثار تناقض عجيب، ربما اتفق ثلاثتهم أنهم الآن يلقون من المجتمع الإكبار والإجلال والاحترام وهم لصوص، فإذا حاولوا أن يتوبوا انقلبوا أمام المجتمع إلى مجرمين سفلة.
والأمر الأعجب وربما كان يثور في نفوس ثلاثتهم أيضا أن الذين يرشونهم يقدمون لهم مع المال الاحترام والإجلال مثلهم في ذلك مثل المجتمع الذي يجهل حقيقة أمرهم. ثم إن ثلاثتهم واثق أن هؤلاء الذين يرشونهم سيكونون أول من يرميهم بالسفالة والانحطاط لو حاولوا أن يرتفعوا بأنفسهم من الدنس إلى الطهر، ومن خيانة الأمانة إلى الشرف.
وكان فرغلي يعلم أن هذا يثور في نفوسهم؛ كان يعلم ذلك من حوارات كثيرة بينه وبين كل واحد من ثلاثتهم على انفراد، وكان يسعد بهذا التمزق الذي تصنعه مخالبه في ابن العائلة ذات الشهرة العريضة، وفي ابني عمته اللذين كانا ينظران إليه في أنفة يوم كان خادما في بيت أمهما.
فإذا ضم مجلس عمته أو زوجها أو كليهما ومعهما يحيى وممدوح انتشى فرغلي غاية النشوة بمديح عمته له متمثلا في الدعاء أن يفتح الله له أبواب الرزق ويتم نعمته عليه جزاء وفائه لها وحرصه على رد جميلها. سعيدة كانت العمة وسعيدا كان زوجها أن أثمر الخير الذي يتوهمان أنهما قدماه لفرغلي معتقدين أنه لا يحمل لهما إلا الشكران وأنه قط لم يفكر أنهما اصطنعاه خادما بغير أجر لقاء فراش حقير ولقمة أكثر حقارة.
آمال فرغلي تسير في الطريق الذي رسمه لها كما يريدها أن تسير محققة له المال والسطوة، ومحققة قبل هذين الانتقام والتصرف في مقادير أقرب الناس إليه ومصائرهم.
Page inconnue