وحين بدأ العام الدراسي بدأ يذهب إلى مدرسة الخديوي إسماعيل القريبة كل القرب من حارة البابلي التي تسكن فيها عمته، فلم يكن شراء ما يلزم للبيت يكلفه أكثر من يقظة مبكرة بعض الشيء.
ولكن إهمال حسين أفندي لمطلبه أسخطه غاية السخط، وخيل إليه أنه يريد أن يستصفيه لعمل البيت في الصباح والمساء، وقدر فرغلي أنه بذلك يكون ما يقدمه من خدمة أكثر كثيرا مما يناله من أجر. فقد كان يتناول غداءه بالمدرسة فلم يكن يكلف عمته إلا لقمة وقطعة من الجبن والحلاوة في الصباح ومثلها في المساء إلى جانب المبيت ولا يساوي هذا أن يكون خادما لليوم كله. ولكنه أدرك على كل حال أن عمه حسين لن يحاول أن يجد له عملا حتى لا يخسر فيه الخادم الذي يقوم بطلبات البيت.
وفي صمت راح هو يبحث في السيدة زينب وفي شارع خيرت عن مكان يمكن أن يعمل به بعد الظهر، فهو يعلم أن أباه لن يقدم له إلا مصاريف المدرسة التي تجهده جهدا شديدا.
فكر أول ما فكر أن يعمل في مقهى، ولكنه خشي أن يلمحه بالمقهى تلميذ ممن يعرفونه بالمدرسة، والمقهى عمل علني لا سبيل فيه إلى الاستخفاء. وفكر ولكنه سخر من نفسه وهو يفكر، إنما يفكر من يملك الاختيار وهو لا يزيد عن سلعة تعرض نفسها على من يقبلها دون حتى أن تملك المساومة في السعر. إنه سلعة لا تختلف عن الشيء الذي يجرى عليه البيع والشراء إلا أنه هو الذي يبيع نفسه، بل هو في الحقيقة أحط من ذلك إنما هي الحاجة التي تبيعه، ولا يملك لسيطرتها بها دفعا ولا لأمرها مناقشة.
والعجيب أو ربما لم يكن عجيبا أن يشعر بالتحرر وهو يبحث عن وظيفة يصيب منها بعض المال، هذه الحرية التي يحس أنه ينعم بها وحده دون سائر الناس، إنه لا يملك شيئا يضيعه، وربما ضاق بعض الشيء حين ثناه عن عمل القاهي خوفه أن يراه تلميذ زميل له؛ فهم في مدرسة الخديوي إسماعيل لا يعرفون أنه ابن راقصة موالد، وربما استطاعت الظروف أن تخفي عنهم هذه الحقيقة إلى أن يترك المدرسة. على أية حال كان بحثه عن الوظيفة يشغله عن كل شيء، وقد استطاع اهتمامه أن يجعل جوبه للقاهرة من أقصاها إلى أقصاها أمرا له مبرره بعد أن كان يجوبها للتعرف عليها فقط.
وكان ينزل إلى الحي فيمشي في شوارعه على غير هدى حتى إذا وجد مقهى جلس إليها وحاول أن يتقرب إلى القاهي بوسيلة أو بأخرى حتى إذا أحس أن الأنظار بدأت تلتفت إليه قام وراح يضرب في طرقات الحي.
ولم يستطع انشغاله هذا أن يبتعد به عن توقع قيام الحرب العالمية حتى إذا أعلنت الحرب لم تأخذه على غرة، ولكن الحرب لم تكن ذات أثر في القاهرة أول الأمر ولم يفرض الإظلام على القاهرة فور قيام الحرب، ولكن الأمر كان منتظرا بين يوم وآخر.
واستطاعت الحرب أن تدير بين الناس حديثا لا ينتهي، وكانت المفاجآت الحربية التي تحدث تجعل الناس في مصر يشعرون أنهم في حفلة سينمائية لفيلم لا نهاية له ولا معنى له أيضا. وكطبيعة الشعب المصري كان لا بد أن يتحمس لفريق من الفريقين وكانت الأغلبية العظمى ضد بريطانيا ولا أقول مع ألمانيا، فهم يكرهون الإنجليز ويحبون كل من يصيبهم بالضرر والأذى، ولا شأن لهم بعواقب انتصار المحور إنما يهمهم أولا أن تهزم إنجلترا. وكان المصريون يحسبون أن مجرد هزيمة إنجلترا في ذاتها غاية لا وسيلة للحرية، وكانوا يقدرون أنهم يستطيعون أن ينالوا الحرية من هتلر ما دام ليس إنجليزيا، وهكذا كان الشعور ضد إنجلترا جارفا ماحقا.
ولكن فرغلي لم يكن يفكر في إنجلترا ولا في هتلر، وإنما هو يسمع من السامعين ويوافق المتحدث إليه في كل رأي، فما كان يحس أن مصر هذه تعنيه في شيء، فهو لا يعرف معنى الانتماء لمصر؛ لأنه لم يعرف معنى الانتماء الأصغر لأبيه أو لأمه فليس غريبا ألا يعرف معنى الانتماء الأكبر، لقد عاش لا ينتمي إلا لنفسه.
ولهذا لم يكن عجيبا بل كان من الطبيعي جدا أن يرمي الحرب وراءه، لا يفكر فيها، باحثا لنفسه عن عمل، أي عمل.
Page inconnue