وضحك الجالسون، إلا أن صدقي قطع ضحكهم قائلا في حسم: لا، فعلا أنا أحتقر نفسي. - لماذا لا قدر الله؟ إنك محام مشهور، ومكتبك من المكاتب الهامة، ورب أسرة ناجحة والحمد لله، ماذا بك؟ - أحتقر نفسي، وأحتقر كل الذي نصنعه عندك من إضاعة للوقت والمال. - نحن جماعة نشقى طول النهار ونحاول أن نسري عن أنفسنا باجتماعنا هذا، ماذا في هذا؟ - نحن نحاول أن نسري عن أنفسنا، ونحاول أيضا أن نثير ضجة في جوانبنا على أصوات ضمائرنا حتى لا تحاسبنا حضرات المحامين هنا. ألم نرفض جميعا قضايا سامية الربيعي خوفا من رفعت، ويقبله شاب من أبنائنا؟ وما فعله ما سمعتم به مع كبير مجرمي رفعت. وتقول لي يا عبد العال إنني محام ناجح، من الناجح؟ أنا أم هو؟ أنا الذي سعيت وراء قضية الطبيب أم هو الذي رفضها؟ والمصيبة أن نظرته وهو الشاب يتأكد أنها أصدق من نظرتي ... الأربعة القتلة إعدام في حكم يندر أن يكون له مثيل. إن هذا الشاب منصور النقيب يبعث روحا جديدة في المركز، أو هو يبعث روحا جديدة في الوقوف مع الحق مهما تكن النتائج.
وهوم صمت، ثم ارتفع صوت مجيد مالك مدير الضرائب: ما هذا الخطاب الطويل عن شاب أرعن يحاول أن يثير لنفسه شهرة؟ لا تتعجل الحكم وانتظر مصيره.
ويصيح صدقي: أنتظر مصيره؟ لم أنتظره؟ لماذا لا أشاركه هذا المصير؟ لماذا لا أعيد قضايا رفعت إليه؟ ولماذا لا نعيد نحن المحامين جميعا قضاياه إليه ونحن نعلم أنه حتى القضايا المتوقعة الكسب منها ملفقة والأدلة فيها كلها تزوير وتدليس وغش مخادعة؟
وصمت المحامون. وقال عبد العال: لكل منا ظروفه يا صدقي. - يا أخي، في السماء رزقكم وما توعدون، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت، فإن كنا نخاف على المال، فربك هو الذي يرزق، وإن كنا نخاف على النفس فالذي أحيا النفوس هو يميتها، السلام عليكم، أنا سأسير في طريق منصور النقيب، وليوائم كل منكم نفسه مع ظروفه.
وخرج صدقي وترك الجميع في صمت عميق لم ينته إلا بخروجهم واحدا بعد آخر في أثر صدقي، كأنما كانوا في غاشية من مخدر ثم أفاقوا.
وما أفاقوا.
وسمع رفعت بهذا الذي حدث في بيت عبد العال، فأدرك أن الأمر خطير، وضاقت به الدنيا؛ فلم يعد الأمر مجرد أموال سامية، وإنما هو كيانه جميعا وسلطانه وجبروته وتجمع الناس حوله، مهما يكن سبب هذا التجمع عن خوف أو عن منفعة.
وحين سمع أعضاء الجمعية عما فعله رئيسهم تقاطروا على مكتبه حتى اجتمع منهم عدد كبير، وقال أمين: إن مجيئكم دليل على ذكائكم، إذا كنا نريد إحقاق الحق فإن البداية هي التي بدأها منصور. - ولكن كيف نكمل الطريق؟
قال منصور: رفعت حوله الأغلبية الكاثرة من المركز، كثير منهم عن منفعة، ولكن الأغلبية عن خوف. وهو معه السلاح ونحن معنا الحق، وأريد اليوم أن نقسم أن نحق الحق بالحق وأن نحاربه بالكلمة. نريد أن نعرف إذا كان الحق قويا أم ضعيفا ونحن حوله. لا نستعمل السلاح إلا يوم يحاول رفعت أن يستعمل السلاح على أشخاصنا نحن الذين نقول عن أنفسنا حماة الحق. ونحن لا نحارب رفعت وحده، وإنما نحارب جمهورا حوله. - فكيف تكون خطتنا بعد ذلك؟ - إننا كثرة ولنا عيون. - نعم، لا شك في ذلك. - نريد أن نعرف تحركات رفعت جميعا ما وقع منها وما نتوقع أن يفعل. - ممكن هذا. - ونجتمع في كل مرة نعرف أنه سيفعل شيئا ونبحث كيف نواجه ما ينتويه. - على بركة الله، كلام منطقي، ومعقول.
وعرف رفعت أن اجتماعا كبيرا تم في مكتب منصور، ولكنه لم يدر عما دار فيه شيئا مطلقا؛ فأفراد الجمعية بعيدون كل البعد عن النفع الشخصي وعن الجبن؛ فلا طريق له بينهم أبدا. •••
Page inconnue