La Superstition: Une Très Courte Introduction
الخرافة: مقدمة قصيرة جدا
Genres
وبينما حلل كاسيرر الأسطورة سابقا باعتبارها شبيهة بالفلسفة، فإنه الآن يفصل بين الأسطورة والفلسفة. فهو يرى أن الأسطورة ليست سوى صورة من صور المعرفة، لها منطقها المتميز الذي يمكن استخلاصه. ولم يبق سوى الدور المهمش للفلسفة المتمثل في دحض الأساطير السياسية:
لا تستطيع الفلسفة في حدود قدرتها تقويض الأساطير السياسية؛ إذ إن الأسطورة حصينة إلى حد ما؛ فهي لا تتأثر بالحجج العقلانية، ولا يمكن دحضها من خلال القياس المنطقي. على النقيض من ذلك، تستطيع الفلسفة أن تولينا معروفا؛ فتستطيع أن تجعلنا نفهم الخصم ... فعندما سمعنا للمرة الأولى عن الأساطير السياسية، وجدناها منافية للعقل ومتناقضة، مدهشة ومثيرة للضحك، حتى أصبح من الصعوبة بمكان إقناعنا بتقبلها بصورة جدية. وحاليا، صار من الواضح للكافة أن ذلك كان خطأ كبيرا ... فيجب أن ندرس الأصل والبنية والوسائل والأساليب الخاصة بالأساطير السياسية دراسة جادة، ويجب أن نرى الخصم وجها لوجه حتى نعرف كيف نحاربه. (كاسيرر ، «أسطورة الدولة»، ص296)
من الصعوبة بمكان إدراك كيف تصبح دراسة الأساطير السياسية على هذا النحو المقترح مهمة الفلسفة، وليس مهمة علم الاجتماع. فالآن، لا تعد الأسطورة قبل منطقية فحسب، بل وغير منطقية على الإطلاق، وهو موقف أكثر تطرفا من ذلك الذي ينتقد كاسيرر ليفي-بريل عليه!
آل فرانكفورت
ورد تطبيق نظريات ليفي-بريل وكاسيرر بالكامل على الفلسفة في كتاب نشر عام 1946 عنوانه «المغامرة الفكرية للقدماء: مقال حول الفكر التأملي في الشرق الأدنى القديم»، وقد ألفه مجموعة من المتخصصين في الشرق الأدنى. عند إعادة نشر الكتاب في نسخة ورقية الغلاف في عام 1949، جعل العنوان والعنوان الفرعي في صورة عنوان فرعي من شقين، فيما اتخذ الكتاب عنوانا جديدا رئيسا دالا على محتواه، هو «قبل الفلسفة». ووفقا للزوجين هنري وإتش إيه فرانكفورت، اللذين يطرحان النظرية، عاشت شعوب الشرق الأدنى القديم في مرحلة بدائية من الثقافة عرفت عن حق بأنها «قبل فلسفية». وتعود عملية تصنيف القديم تحت البدائي إلى تايلور وفريزر. ويرى آل فرانكفورت أن الحداثيين يفكرون «فلسفيا»، وهو ما يعني التفكير بصورة مجردة ونقدية وغير عاطفية. فمجال الفلسفة هو مجال واحد فحسب يوظف التفكير الفلسفي، أما نموذج التفكير «الفلسفي» الحقيقي فيمثله العلم. ويستخدم تايلور وليفي-بريل وآخرون مصطلح «فلسفة» استخداما واسع النطاق، فيما يترادف مع مصطلح «فكر»، وبالمثل يعتبرون العلم أنقى تجلياتها. وعلى الطرف النقيض من الحداثيين، حسبما يؤكد آل فرانكفورت، يفكر البدائيون تفكيرا «صانعا للأسطورة»، وهو ما يعني التفكير بصورة مادية، وبطريقة غير نقدية، وعاطفية. ولا تعد الميثولوجيا سوى تعبير واحد عن التفكير الصانع للأسطورة، إن لم يكن التعبير الأكثر ثراء على الإطلاق بين صور التعبير الأخرى.
في حقيقة الأمر، تعتبر طرق التفكير الفلسفية والصانعة للأساطير أكثر من مجرد أساليب مختلفة لتصور العالم؛ إذ تعتبر أساليب مختلفة لإدراك العالم، مثلما يراها ليفي-بريل. ويتمثل «الفرق الرئيس» في أن العالم الخارجي من منظور الحداثيين يعبر عنه بالضمير «هو» - للإشارة إلى غير العاقل - بينما هو «أنت» من منظور البدائيين؛ وقد أخذ هذان المصطلحان عن الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر. وتعتبر العلاقة بين «أنا وهو» علاقة انفصالية وفكرية، أما العلاقة بين «أنا وأنت » فعلاقة تشاركية وعاطفية، إذا نحينا العنوان الرئيس الأصلي المحير لكتاب آل فرانكفورت جانبا؛ إذن فالعلاقة المثالية بين «أنا وأنت» هي علاقة حب.
إذا قلنا إن البدائيين يتعاملون مع العالم باعتباره «أنت» وليس «هو»، فسيعني ذلك أنهم يتعاملون معه كشخص وليس كشيء. وبذلك، لا يعزى هطول الأمطار بعد فترة من الجفاف إلى التغيرات الجوية، بل فلنقل إلى إلحاق إله المطر الهزيمة بإله غريم، كما يرد في الأسطورة. وإذا جرى فهم العالم باعتباره «أنت»، سيعني ذلك طمس حقائق يومية تمييزية في ثنائية «أنا وهو». فلا يستطيع البدائيون التفرقة بين الذاتي والموضوعي؛ فهم يرون الشمس تشرق وتغرب، ولا يرون الأرض تدور حولها. يرى البدائيون الألوان، ولا يرون الأطوال الموجية. لا يستطيعون التفرقة بين المظهر والمخبر؛ فالعصا «تبدو» منثنية في الماء وليست هكذا تكون. والأحلام حقيقية؛ نظرا لأنهم رأوها كأنها حقيقية. ولا يستطيعون التمييز بين الرمز والشيء المرموز له؛ فالاسم يتطابق مع صاحبه. وإعادة تمثيل الأسطورة تعني تكرارها، كما سنرى في مناقشة لنظرية فريزر في الفصل
الرابع .
يرى آل فرانكفورت أن المصريين وسكان ما بين النهرين القدماء عاشوا في عالم استثنائي صانع للأساطير. وبدأ الانتقال من التفكير الصانع للأساطير إلى التفكير الفلسفي على يد بني إسرائيل، الذين دمجوا العديد من الآلهة في إله واحد، ووضعوا هذا الإله خارج نطاق الطبيعة. وبذلك مهد بنو إسرائيل الطريق لليونانيين، الذين حولوا هذا الإله الشخص إلى قوة واحدة أو أكثر غير شخصية، تشكل أساس الطبيعة، أو مظهر الأشياء. ولم تنتقل الطبيعة في النهاية إلى مرحلة «خلع الثوب الخرافي»، حتى تحول الخيال السائد في حقبة ما قبل سقراط إلى العلم التجريبي.
هناك مشكلات عديدة مع طرح آل فرانكفورت: أولا: يعبر صنع الأسطورة أحيانا فيما يبدو عن المذهب الروحاني الذي أتى به تايلور، والذي يقول بأن البدائيين يمتلكون العقلية نفسها التي يمتلكها الحداثيون. ثانيا: لا تتضمن ثنائية «أنا وأنت» لبوبر التعامل مع «الشيء » كشخص، بل تشمل فقط التعامل مع «الشخص» كشخص. ثالثا: يمكن التعامل مع أية ظاهرة بكل تأكيد باعتبارها «هو» و«أنت»: تدبر مثال التعامل مع حيوان أليف والتعامل مع مريض. رابعا: لا تستطيع أية ثقافة إشراك الطبيعة فحسب في الأحداث باعتبارها «أنت»، بل تفصلها بصورة كافية تسمح لها بإنبات المحاصيل على سبيل المثال. خامسا: إن توصيف ثقافات الشرق الأدنى القديمة بأنها صانعة للأساطير من جميع الجوانب، ووصف إسرائيل بأنها غير صانعة للأساطير إلى حد كبير، ووسم اليونان بأنها علمية بالكامل؛ كل ذلك يعد اختزالا مخزيا، كما تبين بوضوح آراء إف إم كورنفورد حول علم اليونانيين.
Page inconnue