ومنهم من يستعد وهو يتكلم بصوت عال كأنه يملي على الذاكرة ما تجود به القريحة، حتى إذا جاء وقت الكتابة أعادت الذاكرة كلامه، وتمثلت لديه الألفاظ والجمل التي فاه بها فيتخير منها ما يشاء للصياغة والتعبير.
ومنهم من يستعد وهو صامت كأنه يسمع صوته الباطن بدون أن تحمله تموجات الهواء إلى أذنيه.
ومنهم من يجمد في مجلسه أو يروح ويجيء حينا ناطقا وحينا صامتا.
كل ذلك حسب مزاج الخطيب وحالة نفسه والغاية واحدة، وهي إعانة الذاكرة وتموينها بالفكر والتبحر، حتى إذا تجلى الموضوع في صورته الكاملة عمد الخطيب إلى اختيار القالب الذي يريد أن يفرغه فيه.
فإذا كان الخطيب ممن يستعدون وهم يكتبون فليس من الضروري أن يهتم كثيرا بالألفاظ إذا لم تقع موقعها ولم تصر إلى قرارها؛ لأن الاستعداد يكون في أول الأمر للمعاني دون الصورة، والأحسن أن يمضي في كتابته بلا توقف وإن خانته كلمة أو جملة جاوزها إلى غيرها دون أن يضيع الوقت في البحث عنها.
كذلك إذا كان استعداده بالتكلم لا الكتابة فإن التوقف لدى كل كلمة لا تحضر في حينها أو تركيب لا يصيب مقره يقطع عليه مجرى أفكاره، والأفضل أن يعتبر نفسه كأنه يتكلم أمام جمهور؛ فلا يتلجلج بل يواصل كلامه كما يجري على لسانه صوابا أو خطأ، ومتى انتهى من هذا التمرين وقعد إلى الكتابة أعادت عليه الذاكرة ما سمعت، وكان له متسع من الوقت للتفكير فيما فاته وإحضار ما غاب عنه وتهذيب ما وقع عليه.
وليس هذا مما يستهان به إذا أخذ على نفسه أن يتنبه إلى مواضع الضعف في المعنى أو التعبير في سياق كلامه، فإن الذاكرة تحفظ ذلك وتعيده عليه لدى تبييض الخطاب؛ فكما يمكن للمرء أن يقول في نفسه قبل أن ينام: أريد أن أستيقظ ساعة كذا. وتلبيه الذاكرة فتوقظه في الأجل المضروب، يمكن الخطيب في عرض كلامه عند الاستعداد أن يذكر ويقول: هنا يجب التطويل أو الاختصار أو إبدال هذا اللفظ أو تلك الجملة، فيبقى هذا الطلب كامنا في العقل الباطن إلى أجله المسمى، فلا يفوت الخطيب عند تبييض الخطاب أن يتنبه إليه.
2
قد لا يحتاج الخطيب إلى كتابة خطبته بعد الاستعداد، بل يكتفي بما يسمونه رءوس أقلام إن كان ممن رزقوا ذهنا صافيا وذاكرة قوية، ولكن الأفضل أن يكتبها ليتعود على تهذيب عباراته وتنميقها وتنسيقها، فلا يقع في التكرار الممل أو الضعف الشائن أو السهو المفسد.
على كل حال لا ندحة له مهما تكن طريقته في تهيئة الخطاب من أن يتمرن على انتقاء الألفاظ الجميلة؛ حتى تأتيه عفوا بلا جهد وتنساق إليه بلا تعب، وهذا التمرين يجهله الكثيرون، ومداره أن يجرد الرجل من عقله قوة يضعها شبه حاجز بين الدماغ واللسان، فتكون رقيبا على ألفاظه كرقيب الجمارك، تفحص كل كلمة قبل أن تختلج بها شفتاه لتسمح لها بالمرور أو لا تسمح، وهكذا يتعود أن لا يلفظ الكلمة التي لا توافقه، وهذا الضرب من التمرين يفيد كل إنسان، فقد تعودنا في حياتنا البيتية والاجتماعية أن نقول في كثير من الأحايين جملا مجهزة لا تتبدل مما ضيق دائرة التعبير؛ ألا ترى أننا إذا أردنا مثلا أن نثني على خطاب نكتفي بالقول إنه بليغ فكأننا في الواقع لم نقل ما يلزم؛ لأن هذه الصفة تنطبق على شتى الخطب، وكان الأصح أن نذكر كل ما يمتاز به الخطاب، ونوضح السبب الذي من أجله يستحق أن يوصف بالبلاغة. وكم من الناس رجالا ونساء يكتفون للحكم على الأشياء بمثل هذه الجمل العمومية، فيقولون: هذا عظيم، وهذا هائل، وهذا عجيب، وما شاكل كل ذلك اجتنابا للتعب وتخفيفا للجهد في البحث عن الكلمات الموافقة التي لا تلبينا عادة، وهي لو حققت قريبة المنال بقليل من هذا التمرين.
Page inconnue