كان الخطباء في القديم يتكلمون وقوفا إلا في الأحوال العادية البسيطة، ولم يكن لخطيب الرومان ما يعيق حركاته فكان مستقلا عن المنبر لا يجد أمامه ما يستند إليه أو يضايقه.
وكان من عادة العرب الوقوف على نشز من الأرض، أو القيام على ظهر دابة ورفع اليد ووضعها واتخاذ المخاصر بأيديهم والاعتماد على عصا، أو قناة أو قوس والإشارة بها.
وأول من عمل المنبر فيهم تميم الداري، عمله للنبي وكان قد رأى منابر الكنائس بالشام.
أما اليوم فأيان كان الخطيب فالغالب أن يضع أمامه شبه مائدة أو كرسيا أو غير ذلك، وهو لا يحتاج عند الانتبار إلا إلى اتخاذ وقفة طبيعية بعيدة عن التكلف مع اجتناب بعض العادات المستهجنة؛ كوضع اليد على الجنب أو كثرة الحركة والتخطر جيئة وذهابا.
وإذا كان في المنبر فائدة للخطيب الحديث العهد بالخطابة لأنه يجد فيه شبه فاصل يحميه من الجمهور، فالمقتدر الجسور يتضايق منه ويشعر كأنه مأسور في قفص يضع حدا لحركاته وصوته.
على كل حال يجب أن يكون الخطيب في وقفته معتدل القامة آخذا بصدره إلى الأمام، مقدما رجلا عن الأخرى لأجل التوازن وإراحة التنفس وإسعاد الصوت.
ولا بد له قبل الشروع في الكلام من التنظر حينا؛ ليتم له السكوت ويكون لديه متسع من الوقت للتعرف إلى الجمهور، ولا سيما إذا كان صعوده إلى المنبر بعد نزول خطيب آخر عنه، فإن هذا التريث يساعد على إلفات نظرهم وجمع انتباههم بعد أن يتباعد عنهم صوت الخطيب السابق، ويذهب صداه من آذانهم فيكون للكلام الجديد موقع ألطف في القلوب ومخالطة أجمل للنفوس. (2) الصورة
لا ريب في أن جمال الملامح واعتدال القامة من الأمور التي تساعد على إجادة التأثير، غير أنها ليست واجبة الوجود، وهذا هو ميرابو خطيب الثورة الفرنسية كان من البشاعة على جانب عظيم، ولم يمنعه ذلك البلوغ من تأثيره في معاصريه إلى أبعد مدى وكذلك دانتون.
ذلك لأن جمال النفس والعواطف يتجلى عند الكلام في الوجه والعينين، وهو الذي يخلع على سحنة المتكلم حلة من الرواء تأخذ بلب السامع فينسى معها قبح المنظر، وقد كان أحد أشياع سوكرات يقول لتلميذه: تكلم حتى أراك.
وحكي عن كوكلين الممثل المشهور أنه لما ظهر على ملعب التمثيل في رواية سيرانو ده برجراك، وهو يحمل أنفا دونه أنف ابن حرب كاد الضحك يستولي على النظارة، فما هو إلا أن تكلم حتى ملك الآذان برخامة صوته وبلاغة الشعر الذي كان يلقيه إلقاء ليس وراءه معلق لطاعن، ولا مأخذ لعائب فكانت النفوس تتهادى تحت نغماته الساحرة كما تتهادى مع النسيم أغصان الشجر.
Page inconnue