وقد قيل عن الحضارة والرقي مثلما قيل في البلاغة، فأشهروا إفلاس العلم وعجز الارتقاء؛ لأنه لا يزال على الأرض شقاء.
وإذا كانت البلاغة تستعمل أحيانا سلاحا للباطل، فمن العدل أن يتخذها الحق ليحارب بها الباطل؛ ولهذا جعل الأقدمون اللسان في أعلى مقام من الشرف وأدنى مكان من الامتهان.
والحقيقة التي يجب أن تعلم وتقال هي أن البلاغة ليست تجارة كلام بل فنا خطير الشأن عزيز المذهب، غايته تهذيب النفوس، وإصلاح الأخلاق، وتنوير الأذهان، وكبح جماح الشهوات، ودعم النظم والقوانين، ورد الناس إلى الصلاح، وهديهم سواء السبيل.
من هو الخطيب؟
1
هل يولد الإنسان خطيبا كما يولد شاعرا؟ أو بعبارة أصح: هل يحتاج الخطيب إلى ذلك الوحي الآتي من أعماق النفس كأنه انفجار باطني، أم يكفيه العلم والممارسة ليجد سبيلا إلى عقول الناس وقلوبهم؟
من المعلوم أن النطق عمل منعكس من أعمال النفس البشرية كالصمت أو غيره، فكما تجد من الناس من تخرسه مشاهد الوجود الرائعة فيقف منها موقف الدهشة والذهول لا يطيق حركة ولا يحتمل صوتا، تجد بعكس ذلك من لا يستطيع السكوت عما يجيش به صدره من مختلف التأثيرات كأنما هو يريد أن يشرك بها كل من حوله من حي وجماد. قال الأستاذ كركوس في كتابه فن التكلم في الجمهور ما معناه: تصور راعيا يسوق أنعامه في الخلاء وقد حيته ابتسامة الفجر، وهو يفتح للشمس قصره الذهبي، أو ناجاه الشفق الوردي وهو يخلع على الكون رداء السكون، وانظر أي أثر يكون لهذا المشهد في نفسه فقد يقف صامتا جامدا مأخوذا بروعته وجلاله أو يتناول مزماره وينفخ فيه طربا وزهوا، أو إذا كان خطيبا يرفع رأسه وعينيه ويدعو إليه قوى الوجود الخفية باحثا عنها في الريح العاصفة، أو الموجة الثائرة أو الغصن المائل مع الهواء أو الصخرة الصماء.
فالخطيب إذن هو الذي تهزه المؤثرات الطبيعية فيتردد صداها فيه بالوحي ينزل على لسانه والبلاغة تتدفق في بيانه.
2
هذا التعريف يختص بالبلاغة الفطرية، وهي اليوم لا تكفي وحدها لبلوغ الغاية من التأثير والجلوس على عرش الأسماع والقلوب؛ ذلك لأن اتساع دائرة المعارف الإنسانية وتعدد وسائل البحث والاختبار قد جعلا موقف الخطيب صعبا، فهو يحتاج إلى ذخيرة من العلم كان الأقدمون في غنى عنها لافتقاره غالبا إلى إقامة برهان وتأييد حجة ودفع اعتراض ، وإقناع فئة من الناس قد نضجت عقولها فهي لا تقبل بالكلام يرسل على عواهنه، سواء أكان هذا منها عنادا ودعوى، أم رغبة بالعلم واستزادة من الفائدة.
Page inconnue