كيف تلاشى لم تكن تعرف، كان مرنا طيعا تثنيه فينثني وتلويه فيلتوي كقطعة من الملبن أو اللبان، وكانت تحبه ... وربما أكثر مما تحب أي شيء آخر وأكثر مما تحب «نون»؛ فهو الشيء الوحيد الذي يصل ما بين نصفها الأعلى ونصفها الأسفل، وكان من الممكن أن يكون كل حياتها لولا أنها لقيت الشيء الآخر.
ماذا كان هذا الشيء الآخر الذي لقيته؟ لم تكن تعرف كانت من قبل قد لقيت نصف اسمها ونصف ذاتها فإذا بها الآن تلقى الكل، كلا كاملا متكاملا فحسبت أنه الله، وكانت قد سمعت كلمة الله، كانت تحس بطريقة غامضة أنه أكبر منها وأكبر من أبيها وأمها وأكبر من أي شيء في حياتها، وحينما التقت ب «نون» ظنت أنها الله، وحينما اكتشفت من بعد أن جسدها أقدر من جسد «نون» وأكثر شبابا بدأت تظن في نفسها أنها هي الله، لكنها عثرت فجأة على ما هو أكبر منها فأصبحت وكأنما وجدت الله.
لكنه لم يكن الله، كان شيئا عجيبا تحسه في أعماقها، له نبض خافت كنبضها، وسخونة دافئة دفء جسمها، وحركة ضعيفة ناعمة تدغدغ أحشاءها، وفي الليل حيث يصمت العالم وتصمت الدنيا من حولها، يبدأ بيده الدقيقة الناعمة يدق جدران بطنها دقا عجيبا له سخونة قلبها ونعومة كبدها وهمسه الدافئ يختلط بأنفاسها، أكان يقول شيئا؟ لأنها كانت ترهف أذنيها وتتحسس بيديها بطنها وصدرها وكبدها، وحينما تحس دفعات يده الصغيرة تحت كفها تنتفض، أهو إله حي في داخلها؟ ليس أي إله وإنما إلهها، هي التي صنعته وهي التي تصنعه وهو الوحيد الذي تملكه والذي هو لها، لم يسبق أبدا أن كان لها شيء أو أن شيئا كان ملكها، كان الآخرون هم الذين يملكونها، أبوها وأمها وزوجها والرجال، حتى «نون» ملكتها ولم تكن هي إلا مملوكة لها.
ولأول مرة في حياتها تملك «عين الحياة» شيئا، ليس خيمة وليس حلة وليس جلبابا ولكنه إله، إلهها الوحيد الذي يمزق نفسه الحاني الصمت من حولها ويشبع دفؤه الدفء في جسدها وقلبها، ابنها الحبيب ومملوكها الوحيد.
وكأنما لم تحزن أبدا. أحزانها القديمة لم تعد أحزانا، وحياتها الماضية بكل آلامها بدت لها من بعيد كأنما هي حياة امرأة أخرى عاشت وماتت ودفعت حياتها من أجل أن تقبض هي الثمن، ثمن غال كبير من أي شيء تحمله في جنباتها، ويملؤها ويملؤها حتى الحافة.
وحينما كان الفرح يفيض بها تتلفت وراءها كأنما هناك من يطاردها، كأنما المرأة الأخرى الميتة صحت فجأة وراحت تجري خلفها لتسترد حق آلامها ، وقد بلغ الخوف أحيانا فتسرع الخطى وهي تتلفت حولها، وتخفي بطنها بذراعيها كأنما هي تخبئ تحت ملابسها شيئا مسروقا أو مختلسا.
ما الذي كان يطاردها؟ لم تكن تعرف، لكنه لم يكن امرأة ميتة أو امرأة على الإطلاق، كان رجلا، ربما لا يتخذ دائما شكل الرجل لكنه كان رجلا، مرة يصبح طويلا نحيلا له عينان ضيقتان بغير رموش كعيني أبيها، ومرة يصبح غليظا قصيرا ينفخ خلفها بأنفاس كالسعال ويدب وراءها بقدم ثقيلة كخف الجمل، ومرة لا يكون رجلا واحدا وإنما رجال كثيرون ملتحمون في كتلة واحدة ضخمة متعددة الرءوس والأذرع والأرجل كحيوان مائي غريب أو أخطبوط.
وكانت قد ارتدت جلبابا واسعا فضفاضا يخفي تحته بطنها، وكانت تسرع الخطى لتختبئ وراء شجرة أو صخرة، وبدأت اليدان الدقيقتان الناعمتان تدقان جدران بطنها، لم يكن هو الدق الرقيق العادي الذي ينتهي بعد فترة، وإنما هو دق شديد مستمر يهز جسدها هزا عنيفا ويكاد يشطرها نصفين، وربما هي تنشطر فعلا، فالمنشار الحاد بدأ يروح ويجيء من قمة رأسها إلى أطراف قدميها مارا بصدرها وبطنها وظهرها، وفتحت فمها لتصرخ من الألم لكنها دست يدها في فمها وضغطت عليها بفكيها بكل قوتها فانغرزت أسنانها في لحمها.
وفي لحظة خاطفة انتهى كل شيء، المنشار سقط فجأة في الهواء وجسدها المشطور تمدد فوق الأرض ينزف ببطء، لحظة خاطفة لم تستغرق ثانية أو ثانيتين لكنها بدت كدهر بأكمله، دهر طويل ثقيل بطيء شمل حياتها كلها منذ ولدت، بل قبل أن تولد حين كانت جنينا صغيرا يصارع الموت بغير أظافر وبغير أسنان وبغير شعر، دهر طويل ولدت فيه بنتا وتحولت فيه البنت إلى امرأة وتحولت المرأة إلى أم.
وزحفت الأمومة إلى جسدها الساخن النازف كإحساس ثقيل بارد أو كتيار من الهواء الصاقع جعل جسدها يرتعد، وضمت ذراعيها وساقيها لتدفئ نفسها فإذا بها تنضم حول إنسان صغير جدا له عينان تشبهان عينيها، ويدان وقدمان تشبهان يديها وقدميها، كأنما هي تنظر إلى نفسها من خلال عدسة مصغرة، والتفت حوله ذراعاها ونهداها وساقاها وشفتاها فكأنما هي تحتضن جسدها وتلثم بشفتيها جلدها.
Page inconnue