مرضى ربما، لكنهم لا يعرفون المرض، ربما هو الجو الخانق في الممر المزدحم الضيق، ربما هو القانون الصارم الذي جعلهم ينتظمون واحدا وراء الآخر في صفوف، ربما هو الإحساس القاتل بأن الصف لا يتحرك وهم باقون في مكانهم إلى الأبد ينتظرون.
في هذا النحو الغريب وجدت «نون» جسدها، لم يكن جسدا عاديا وإنما هو جسد ممشوق طويل، يرتفع عن نهديها البارزين المدببين ثم يضيق عند خصرها؛ فكأنه يختنق ليتسع مرة أخرى حول ردفيها الممتلئين المكورين، ولم يكن لها في الحياة إلا جسمها فأصبحت تعلمه، لم تكن تعرف كيف تعلمه لكنها كانت تحركه فيتحرك، تمد ذراعيها فترتفعان، تهز ردفيها فيهتزان، تثني خصرها فينثني، ترفع ساقيها فترتفعان، ربما كانت ترقص، لكنه لم يكن رقصا عاديا تؤديه كما يؤدى الواجب وتنال عنه أجرها، كان جسمها يرقص وكأنما هو يتنفس، كأنما هذه هي طبيعته؛ أن يعيش الرقص، أن يتحرك على هذا النحو وينثني ويلتوي ويعتصر ويتساقط منه العرق كأنه يقطر الشهد.
ولم تعرف «نون» حين تهافت عليها الرجال أنها امرأة غير شريفة، لم تكن تفهم معنى الشرف، أو لعلها كانت تفهمه بشكل آخر، فالشرف في نظرها هو الحياة، أن تقبل على الحياة وتقبل الحياة عليها، وكانت تعرف أن المرأة التي يتهافت عليها الرجال لا يمكن إلا أن تكون شريفة، أما تلك التي لا يتهافت عليها الرجال أو لا يتهافتون بكثرة فهي امرأة غير شريفة.
على أنها لم تشغل نفسها كثيرا بتلك المسميات، لم تكن تحتاجها، كان كل شيء عندها، والحياة برجالها ومتاعها وراء الباب، وهي التي تختار، تفتح أو لا تفتح، إذا طردت واحدا جاء بعده اثنان، وإذا طردت اثنين جاء من بعدهما أربعة، يتضاعفون ويتكاثرون كالذباب.
لكنهم لم يكونوا إلا ذبابا يهبط على الشيء ثم يطير، ولم يكن لها من أحد إلا صديقتها عين الحياة ... كانت تحبها، لم يكن حبا عاديا حيث يبقى المحبان مهما التقيا كاثنين منفصلين، ولكنه ذلك الإحساس العجيب بأن «عين الحياة» قريبة وملتصقة بها إلى حد أنها قد تبدو جزءا منها، تأكل حين تأكل، وتشرب حين تشرب، تنام حين تنام، تحرك ذراعيها حين تحرك ذراعيها، تثني خصرها حين تثني خصرها، تهز ردفيها حين تهز ردفيها، ترفع ساقيها حين ترفع ساقيها، وربما كان من الممكن أن يختلط عليها الأمر فتظن «عين الحياة» أنها «نون» وتظن «نون» أنها «عين الحياة» لولا ذلك الاختلاف في لون الشعر والعينين، وفيما عدا ذلك كانتا متشابهتين كالتوءمين.
لكنهما لم تكونا توءمين، لم تكن أمهما واحدة ولم يكن أبوهما واحدا، وربما كان هذا هو السبب في الاختلاف الآخر الذي ظهر فيما بعد، وكانت «عين الحياة» قد انتقلت لتعيش مع «نون»، لم تعرف في ذلك الوقت أنها هربت من خيمتها، كانت قد أصبحت «عين الحياة» ولم تعد خيمتها هي مسكنها وإنما مسكنها هو حيث عاشت «عين الحياة»، وحينما سارت إلى بيت «نون» كانت خطواتها ثابتة هادئة طبيعية وكأنما هي تسير إلى بيتها، وحينما كانت «نون» تنظر إليها كان يخيل إليها أنها تنظر إلى نفسها، وحينما ترى جسمها يخيل إليها أنه جسمها، ربما كان جسمها أكثر شبابا وأكثر مرونة لكنه كان كجسمها.
وقد كان من الممكن أن تظل «عين الحياة» على هذا النحو لولا أنها لم تكن «نون» وإنما كانت امرأة أخرى.
ولأول مرة تلتقي «عين الحياة» بالرجل، لم تكن تعرف ما الذي يمكن أن تعنيه كلمة رجل، أبوها لم يكن رجلا وإنما كان أباها، وزوجها كان ... ماذا كان؟ لم تكن تعرف ولم تعد تذكر، وحينما طلبت من «نون» أن تصف لها الرجل أجابتها بكلمات غامضة: النظرة النافذة التي تنطلق وتخترق الصدر كطلقة المسدس ومن بعدها ينثني الجسد كغصن شجرة مثقل بالثمار ويتساقط إلى الأرض شيئا فشيئا؛ الغيبوبة العجيبة التي تصبح فيها الحواس أكثر حدة وأكثر قدرة على الإحساس؛ اللحظة الرائعة حين يصبح الجسد لا جسد، والرأس لا رأس، والذراع لا ذراع، والساق لا ساق، وإنما هي أسلاك كهربية أو خيوط عصبية معقدة ومتشابكة وملتفة بعضها ببعض كأنما منذ الأزل وكأنما إلى الأبد، ولا يمكن لأحد أن يتصور أنها يمكن أن تتحلل أو تتفكك بعضها عن البعض لتأخذ في النهاية شكل امرأة ورجل.
ولم تفهم «عين الحياة» من هذه الكلمات شيئا ... لكنها رقدت بجسدها الطويل الممشوق ... لم تكن تعرف أتفتح عينيها أم تغلقهما، واكتفت بعد فترة تردد أن تغمض عينا واحدة وتفتح الأخرى. كان الظلام كثيفا لكن ضوءا خافتا كان ينبعث من فتحة ما، واستطاعت أن ترى الصدر الأسمر العريض يغطيه شعر أسود كثيف يبدأ من تحت الرقبة ويهبط غزيرا كثيفا متشابكا كغابة مجهولة يخفي من تحته بطنه المشدود، وظلت راقدة تنظر بغير حراك.
وفجأة أحست ثقلا ضخما فوق جسدها، كأنما سقط الجدار عليها وحاولت أن تفتح فمها لتصرخ، لكن كماشة حديدية كانت قد أطبقت على شفتيها الحديديتين، وحاولت أن تتنفس لكن أنفها كان قد ضغط وفعص فأصبح في مستوى وجهها وانسدت فتحتاه تماما، وأخذت عضلات جسدها تنقبض وتنبسط طالبة الهواء كما يحدث لأي جسد حي يرفس قبل أن يموت خنقا، لكنها ليست إلا بضع دقائق ثم توقفت عضلاتها عن الحركة تماما.
Page inconnue