ولم تكن شفتاها تعرفان تلك الانفراجة المعينة التي تنم عن الابتسام، كانت مطبقتين دائما مزمومتين وكأنما هما شفة واحدة وليستا شفتين اثنتين، وحينما كانت تفتحهما في لحظات الاختناق لتصرخ تلك الصرخة الخافتة غير المسموعة لم تكونا تنفتحان، وإنما هما تتمددان ممطوطتين إلى الأمام، وقد يحدث حين تبللهما بطرف لسانها أن يتفكك لصاقهما وتنفرجا، ليس انفراجة كاملة وإنما شق ضيق صغير تلمع من تحته أسنانها كوميض ضوء لا يظهر حتى يختفي.
لكنها استطاعت أن ترد على الابتسامة إليها بابتسامة مماثلة، لعلها لم تكن ابتسامة مماثلة أو لم تكن ابتسامة على الإطلاق، ولكنها استطاعت أن تجعل عضلات فكيها تنقبض وتنبسط لينفتح فمها عن آخره كاشفا عن صفين طويلين منتظمتين من الأسنان الصغيرة البيضاء. •••
ولم تكن المرأة تعطيها غير تلك الابتسامة لكنها بدت وكأنما هي تأخذ شيئا لا تعرف أين تخبئه، لم يسبق لها أن أخذت شيئا من أحد فأحست أنها لا تأخذ وإنما تختلس، وبدأت حركاتها تضطرب كهذا الذي يأخذ شيئا خفية، حين تقترب من باب الخيمة لتفتحه في الصباح تضطرب أصابعها وقد ترتجف، وتقف من وراء الشق الرفيع كأنما هي تتجسس، وحين تظهر المرأة فوق السطح وعلى وجهها تلك الابتسامة الموجهة إليها هي بالذات تتلفت حولها لتتأكد من أن أحدا لا يراها، وحينما يحدث التبادل الآثم وترد على الابتسامة بابتسامة مماثلة تسد الشق بسرعة كمن يطمس آثار الجريمة.
وكان من الممكن في أول الأمر أن تكف عن هذه اللعبة الخطرة لكنها بعد فترة من الممارسة لم تستطع، أصبحت تصحو من النوم وعيناها ترنوان نحو الباب، فإذا ما تأخرت المرأة في الظهور بعض الوقت استبد بها القلق، وراحت تتمشى في الخيمة وعيناها فوق الشق، وحينما يتم كل شيء وتغلق الباب تعود تنتظر الصباح التالي لتصحو من النوم وتفتح الباب.
لو كان الأمر خيالا ربما بقيت «عين» تبادل المرأة الابتسام إلى الأبد، لكن الأمر لم يكن خيالا، والمرأة كانت حقيقة من لحم ودم، لها قدرة على الحركة ولها أيضا قدرة على النطق، وجاء اليوم الذي كان لا بد أن يجيء، وفتحت «عين» الباب فإذا بها أمام المرأة وجها لوجه، وهنا يصبح التعبير صعبا، فاللحظة معقدة ومشاعر «عين» بالغة التعقيد، تغلق الباب أو تفتحه؟ تعرف المرأة أو لا تعرفها؟ تريدها أو لا تريدها؟ لم تكن تعرف تماما، فهي تعرفها ولا تعرفها، وهي تريدها ولا تريدها، وهي تغلق الباب وتفتحه، والحقيقة أنها لم تغلق الباب أو تفتحه وإنما ظلت أصابعها ترتجف فوق الباب، تجمدت فوق تلك اللحظة المترددة بين الفتح والغلق، وربما كان من الممكن أن تظل على هذا النحو لولا ذلك الصوت العالي الحاد الذي نفذ في أذنيها كالجرس: أنا جارتك «نون» هل أدخل؟ - ادخلي.
لم تعرف «عين» انفتحت شفتاها وانطلقت من بينهما الكلمة «ادخلي»، كان صوت المرأة ينم في تساؤله «هل أدخل؟» عن الاستئذان، ولأول مرة في حياتها يستأذنها أحد، كانت الأشياء تفرض عليها بالقوة كاللكمات وما كان عليها إلا أن تصدها، لو كان يسبق ذلك نوع من التساؤل أو الاستئذان ربما كان في إمكانها أن تتقبلها وربما بكامل إرادتها وعن طيب خاطر، لكن أحدا لم يكن يدرك أنها يمكن أن يكون لها إرادة أو خاطر.
ودخلت «نون» إلى الخيمة وعيناها الخضراوان اللامعتان تدوران حولها، كانت طويلة ممشوقة يلتف جسمها في استدارات ملساء ناعمة، وشعرها الأصفر ينسدل فوق كتفيها البيضاوين، وكأنما كانت تبتسم دائما، شفتاها الممتلئتان النديتان متباعدتان في انفراجة دائمة تكشف عن أطراف أسنانها الصغيرة المدببة. - ما اسمك؟ - «عين». - «عين الحياة». - «عين». - الأسماء أحيانا تختصر. - تختصر؟ - في أوقات الدلع. - الدلع؟ - فاطمة تصبح «فوفو» ونفيسة «نونو» وعين الحياة «عين». - «عين»؟ - ولكني سأناديك «عين الحياة». - عين الحياة؟ - أنت تشبهين «عين الحياة». - أنا؟ - «عين الحياة» كانت صديقتي الوحيدة. - الوحيدة؟ - ولكنها ذهبت. - ذهبت؟ - كنت أحبها أكثر من نفسي. - نفسك؟ - وكانت تحبني بالمثل. - بالمثل؟ - فاتت السنون ولم أنس ملامحها. - ملامحها؟ - تشبه ملامحك. - ملامحي؟ - عيناك السوداوان اللامعتان. - اللامعتان؟ - وجسمك الطويل الملفوف. - الملفوف؟ - وبشرتك الصافية السمراء. - السمراء؟ - وشعرك الأسود الناعم. - الناعم؟ - وكان أيضا تحت حاجبها هذه «الحسنة». - «الحسنة»؟ - أقصد «وحمة». - وحمة؟ - الأم تشتهي شيئا فيرتسم على وجه طفلها. - طفلها؟ - ربما اشتهت أمك شيئا. - أمي؟ - ربما اشتهت تفاحة. - تفاحة؟ - خدك يشبه التفاحة. - خدي؟ - تفاحة معلقة على الشجرة. - معلقة؟ - لا بد أنك سمعت هذا من قبل. - من قبل؟ - لا بد أن قالها لك أحد. - أحد؟ - ربما زوجك. - زوجي؟ - ربما حبيبك. - حبيبي؟ - ربما عشيقك. - عشيقي؟
وكأنما كانت تتعلم الكلام، الأسماء الغريبة وحروف الكلمات الجديدة كانت تقتحم رأسها كشظايا من الحديد الساخن، تنطلق واحدة بعد الأخرى ملتهبة ومضيئة من تحت مطرقة الحداد، وكالطفل الصغير حين يكتشف فجأة أنه تعلم الكلام؛ فيفتح فمه ويغلقه عشرات المرات مرددا الكلمة الواحدة مئات المرات. راحت «عين» تردد بينها وبين نفسها: عين الحياة ... عين الحياة ... عين الحياة ... لم تكن تعرف لماذا بقيت هذه الكلمة بالذات تتردد في رأسها بغير انقطاع، ربما بدت لها سهلة، ربما بدت مألوفة لأن اسمها جزء منها، ليس جزءا صغيرا وإنما هو النصف بأكمله أو لعله أكبر من النصف أيضا، فما الذي يمكن أن تعنيه كلمة «عين» وحدها؟ ربما نسي أبوها أن يكتب اسمها كاملا، أو لعله كتبه كاملا لكنه نسي في النطق النصف الآخر.
وكأنما عثرت فجأة على نصف اسمها الضائع، وهتفت بينها وبين نفسها مرددة «عين الحياة» ... «عين الحياة»، وبدا لها أنها تسترد مع نصف اسمها نصف ذاتها أيضا، كأنما لم تكن تعيش بكل ذاتها، كأنما كانت «عين الحياة» نصف إنسان فإذا بها تصبح إنسانا.
وتقمصت «عين» شخصية «عين الحياة»، لم يكن تقمصا عاديا يعي فيه أنه شخص آخر، كان نوعا من الالتحام، ليس التحاما فحسب، وإنما هو ذلك الفناء الذي يحدث للشيء حين يذوب في الشيء الآخر، ولم يكن أيضا فناء واعيا يمكن لها أن تدركه أو تذكره لكنه كان أشبه ما يكون بتناسخ الأرواح، كأنما ماتت «عين» ثم بعثت لتعيش حياة أخرى في جسم «عين الحياة»، أو كأنما كانت هي في الأصل عين الحياة ذاتها وليست أي شخص آخر.
Page inconnue