Pensées de l'Imagination et Dictées de l'Émotion
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
Genres
الموسيقى هي التي تترجم وتنشئ الحالات النفسانية العميقة، بل هي ألطف ما انبعث من العقول، الموسيقى قوة رقيقة لطيفة للحياة الأدبية، إن هي إلا شعور وفكر في آن واحد، الموسيقى هي لغة الحب للأفئدة، بل حلية الخيال وزينة التصور.
الموسيقى لغة غزيرة المعاني خفية الأسرار، توقظ التقوى وتخاطب الشعور مباشرة بغير واسطة، وقال «فاجنر» الموسيقي الطائر الصيت: القلب هو الصوت وما الموسيقى إلا لغته الفنية، بل الهوى الذي يفيض ويسيل من الأفئدة.
وقد أظهر الموسيقي الفرنسي الشهير «بيرليوز» قدرة الموسيقى على التعبير عن الأحوال النفسانية، ومعظم الجزء الخاص بالانتقاد في كتابه يدور على صدق التعبير في الموسيقى، فتراه بمهارته المعروفة قد ازدرى وسخر من توقيع الآلات الموسيقية في الأزمان الغابرة حيث وجد جانبا منها تكملة للعدد تسد فراغا لا معنى له أو تضاعف صوتا تحدثه آلة أخرى، فقال: «إن هذه الموسيقى لا تصلح إلا لترقيص القردة في الأسواق وإسناد الحواة والبهالين وبالعي السيوف والثعابين في أقذر الطرق.»
الموسيقى هي الفن المتداول الذي يستقي مادته من الحياة الاجتماعية، كالنبات يمتص غذاءه من المكان الذي تخترقه جذوره، لا التصوير ولا الحفر متداولان كما أن فن زخرفة البناء في غاية التعقيد ومفعم بالمعلومات الفنية والأثرية وخاضع للاشتغال بالزخرفة أو ضروريات أعمال خاصة ليصبح عملا وقتيا جامعا لعدة أشياء، فهذا الامتياز إذن خاص بالموسيقى وأخيها الشعر.
الموسيقى لها معنيان مختلفان متحدان في شكل واحد كالروح والجسد؛ أحدهما في غاية من السهولة والوضوح، والثاني يفر من الباحث فيه، فهو في الوقت نفسه تقليد لحياة الحب أو الأشياء الظاهرة، ولغة ذات فكرة خاصة بها تهيمن على جميع الأشياء، فهي تشمل في هذا التعبير المزدوج العبارة الشعرية التي تعززها بالحقائق الوافرة، وتكمل الفكرة البليغة بنقلها إلى مستوى أرقى خيالا، وهذا مما يدل على وجود التفاوت التام بين الموسيقى والشعر ... ليس الفرق بين الشاعر والموسيقار قاصرا على أنهما لا يتكلمان بلغة واحدة ولا يخضعان لقانون واحد؛ بل لأنهما لا يفكران بمقدرة واحدة، وهذا التضاد هو الذي يدفع الواحد نحو الآخر ليتمما بعضهما ببعض، وحينما يجتمعان يعضدان اللغة الأصلية ويمنحان أصولها منتهى القدرة فيتغلبان على عواطفنا السامية، ويتمكنان من أن يبثا فينا أقوى وأشرف عواطف التكافل الاجتماعي.
لا توجد أمة متمدينة أو وحشية إلا والموسيقى منتشرة بينها، وإذا تصفحنا التاريخ وجدناها في العصور الخالية، وأقدم دليل هو صورة محفورة على الأحجار تمثل شخصا يوقع على آلة موسيقية تسمى «هارب»، وجدت في بلاد الكلدانيين وعثر عليها المسيو «سرزيك» في قصر «تلو» على الشاطئ الأيسر من قناة تربط الدجلة بالفرات، وقد قدر تاريخها أفاضل العلماء مثل «بواتييه» بثلاثين قرنا قبل الميلاد، ولا مشاحة في أن الموسيقى أقدم من الشعر وهي التي نفحته بقوانينه الخاضع لها.
ترتبط الموسيقى بأجمل العلوم ويتسنى طرق أبوابها من جهات مختلفة، وفضلها لا يلبث أن يظهر من جميع الوجوه؛ إذ تتعلق بالطبيعي والفسيولوجي، فإن كانا مزودين بطرق التحاليل والبحث العالية حددا نواميسها وكشفا لنا فيها عالما مفعما بالعجائب، وترتبط بالفيلسوف الذي يستطيع أن يبين لنا أنها تسعد النفوس بشريف العواطف وجليل الفكر، وتتعلق بالمؤرخ الذي يظهر لنا تقدمها وما صادفها من التقلبات وعلاقاتها بالتاريخ العام للأخلاق والعادات ودورها في حركات المدنية، وترتبط بعلماء الجمال فتنفحهم مقرا رفيعا غريبا يدرسون فيه آيات جمالها وأشكالها.
الموسيقى الشاملة لجميع ما سردناه من المزايا تحدث في النفوس جرحا من الملذات، وتترك فيه مثل رءوس الإبر فلا تنسى هذه الآلام اللذيذة الحلوة.
أجد من العبث أن أسرد عيوب الموسيقى الشرقية وما وصلت إليه من الانحطاط، كما أنه لا فائدة من وصف العلاج الناجع؛ إذ قد بينا أن الموسيقى فن متداول من لوازم الهيئة الاجتماعية، وأنها ترجمان الأخلاق والعادات، فهي مرتبطة بدرجة مدنية الأمة وتسير معها خطوة بخطوة، إما إلى الأمام وإما إلى الوراء، فإن حاولنا أن نرقيها وحدها فمثلنا كمثل طبيب جاهل يريد أن يعالج مريضا فسد دمه وانتشرت على جسده الثآليل باقتصاره على الدهان، فجهل العلة وأراد أن يداوي العرض، وهيهات أن يبرأ عليله وتتحقق أمانيه، هذا والله أسأل أن ينهض بالشرق إلى أعلى الدرجات حتى يبلغ من المجد والكمال غاية الغايات. (1-2) الأصوات والكلام الإلهامي للانفعال النفساني
الصوت الإنساني الذي هو مصدر الكلام الشعري والموسيقى يحرز ثلاث قوى للتعبير، إذ لا يتسنى له أن يكون بالتتابع أو في الوقت نفسه تمثيلا للشعور، أو تمثيلا للأشياء المادية والخارجية، أو تمثيلا للفكرة.
Page inconnue