نص الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله حمد معترف بحقه، ونشكره على عوائد فضله ورفقه، الذي جعل لنا الأرض ذلولا نمشي في مناكبها، ونأكل من رزقه، ونصلي على سيدنا ومولانا محمد خيرته من خلقه، ونستوهب للمقام المولوي اليوسفي النصري سعدًا يتلألأ نور أفقه، ونصرًا يتلى بغرب المعمور وشرقه. ونقول:
وقائلة صف لي فديتك رحلةً ... عنيت بها يا شقة القلب من بعد
فقلت خذيها من لسان بلاغة ... كما نظم الياقوت والدر في عقد
لما وقع العزم الذي وفقه الله على مصالح هذه الجزيرة، والقصد المعرب عن كريم العقيدة وفضل السريرة، على تفقد بلادها وأقطارها، وتمهيد أوطانها، وتيسير أوطارها، رأى من قلده الله أمورها، ووكل إلى حمايته ثغورها، مولانا وعصمة ديننا ودنيانا أمير المسلمين وظل الله على العالمين أبو الحجاج بن مولانا أمير المسلمين وكبير الملوك العادلين الصالحين أبي الوليد إسماعيل بن مولانا الهمام الأعلى، الذي تروى مفاخره وتتلى، أبي سعيد حفظ الله منه على الأيام بحر الندى، وبدر المنتدى، وسابق الفخر البعيد المدى وشمله برواق عصمته كلما راح واغتدى، أن يباشرها بنفسه، ويجعل آفاقها مطالع شمسه، نظرًا للإسلام وقيامًا بحقه، وعملا على ما يقربه ممن استخلفه على خلقه، في وجهة خالفها الغمام المنسجم، وقصبة قضى لها بالسعد من لا ينجم، فكان البروز إليها يوم الأحد سابع عشر المحرم فاتح عام ثمانية وأربعين وسبعمائة.
خرجنا وصفحة الأفق بالغيم منتقبة وأدمع السحب لوداعنا منسكبة نتبع من الراية الحمراء دليلا هاديًا، وتغترف من وجهتنا الجهادية سناء باديًا ونثق بوعد الله سبحانه في قوله ولا يقطعون واديًا. وسلكنا جادة الماء المفروش نسرح اللحاظ بين تلك العروش، ونبتذل ما نحلته عروش الربيع من تلك الفروش، ومن له بالحضرة حرسها الله شوق حثيث، وهوى قديم وحديث، يكثر الالتفات، ويتذكر لما فات ويبوح بشجنه، وينشد مشيرًا إلى سكنه.
يوم أزمعت عنك طي البعاد ... وعدتني عن الوداع العوادي
قال صحبي وقد أطلت التفاتي ... أي شيء تركت قلت فؤادي
وربما غلبته لواعج أشراقه، وشبت زافراته عن أطواقه، فعبر عن وجده، وخاطب الحضرة معربًا عن حسن عهده:
ألا عم صباحًا أيها الربع وأسلم ... ودم في جوار الله غير مذمم
ولا عدمت أرجاؤك النور إنها ... مطالع أقماري وآفاق أنجم
إذا نسى الناس العهود وأغفلوا ... فعهدك في قلبي وذكرك في فم
وأني وإن أزمعت عنك لطية ... وقوضت رحلي عنك دون تلوم
فقلبي لك البيت العتيق مقامه ... وشوقي إحرامي ودمعي زمزم
ثم استقلت بنا الحمول، وكان بوادي فردس النزول، منزل خصيب ومحل له من الحسن نصيب. ولما ابتسم ثغر الصباح، وبشرت بمقدمة نسمات الرياح، الغينا عمل السراج إلى الاسراج، وشرعنا في السير الدائب، وصرفنا إلى وادي آش صروف الركائب. واجتزنا بوادي حمتها، وقد متع النهار، وتأرجت الأزهار، فشاهدنا به معالم الأعلام، وحيينا دار حمدة بالسلام، وتذاكرنا عمارة نواديها، وتناشدنا قولها في واديها:
أباح الشوق أسراري بوادي ... له في الحسن آثار بوادي
فمن واد يطوف بكل روض ... ومن روض يطوف بكل وادي
ومن بين الظباء مهاة رمل ... سبت قلبي وقد ملكت فؤادي
لها لحظ ترقده لأمر ... وذاك الأمر يمنعني رقادي
كأن البدر مات له شقيق ... فمن حزن تسربل بالحداد
واستقبلنا البلدة حرسها الله في تبريز سلب الأعياد احتفالا، وغصبها حسنها، وجمالها نادي بأهل المدينة، موعدكم يوم الزينة، فسمحت الحجال. برباتها، والقلوب بحباتها، والمقاصر بحورها، والمنازل ببدورها. فرأينا تزاحم الكواكب بالمناكب وتدافع البدور بالصدور بيضاء كأسراب الحمائم، والقرى الجميل فبتنا نثني على مكارمهم الوافية، وفواضلهم الكافية ولم نحفل بقول ابن أبي العافيه:
إذا ما مررت بوادي الأشا ... فقل رب من لدغة سلم
وكيف السلامة في منزل ... فيه عصبة من بنى أرقم
1 / 1
ولما فاض نهر الصباح على البطاح ونادى منادي الصلاة على الفلاح، قدمنا الرواحل لارتياد منزل، وقمنا عن اتباع آثارها بمعزل نظرًا للمدينة في مهمات الأمور. وكان اللحاق بغور، من بعض تلك الثغور، أتيناها والنفوس مستبشرة، والقباب لأهلها منتظرة، فحمدنا الله على كمال العافية، وقلنا غرض تجنيس القافية:
ولما اجتلينا من نجوم قبابنا ... سناكل خفاق الرواق بغور
زرينا على شهب السماء بشهبها ... متى شئت يا زهر الثواقب غور
أطلتنا بها ليلة شاتية، والحفتنا أنواء الأرض مراثية فلما شاب مفرق الليل، وشمرت والآفاق من بزتها العباسية فضول الذيل، بكرنا نغتم أيام التشريق، وندوس بأرجلنا حيات الطريق. وجزنا في كنف اليمن والقبول بحصن الببول، حسنة الدولة اليوسفية، وإحدى اللطائف الخفية، تكفل الرفاق بمأمنها، وفضح سرية العدو في مكمنها من أبيض كالغارة ضمن الفوز في تلك المفازة فحييناه بأيمن طير وتمثلنا عنده بقول زهير:
وسكنتها حتى اذا هبت الصبا ... بنعمان لم تهتز في الأيك أغصان
ولم تل فيها مقلة تعرف الكرى ... فإن زارها طيف مضى وهو غضبان وكان ملقى الحران منابت الزعفران بسطة حرسها الله، وما بسطة محل خصيب، وبلدة لها من اسمها نصيب، بحر الطعام، وينبوع العيون المتعددة بتعدد أيام العام. ومعدن ما زين للناس حبه من الحرث والأنعام. يالها من عقيلة، صفحتها صقيلة، وخريدة، محاسنها فريدة، وعشيقة نزعاتها رشيقة، لبست حلي الديباج الموشى، مفضضة بلجين الضحى، مذهبة بنضار العشا، وسفرت عن المنظر اليهى، وتبسمت عن الشنب الشهي وتباهت بحصونها مباهاة الشجرة الشماء بغصونها، فوقع النفير وتسابق إلى لقائنا لبجم الغفير، مثل الفرسان صفاُ، وانتشر الرجل جناحًا ملتفًا، واختلط الوالدان بالولائد، والتمائم بالقلائد في حفل سلب النهى وجمع البدر والسهى، والضراغم والمها، وألف بين القاني والفاقع، وسد بالمحاجر كوى البراقع، فلا أقسم بهذا البلد وحسن منظره الذي يشفى من الكمد لو نظر الشاعر إلى نوره المتألق لآثرها بقوله في صفة بلاد جلق:
بلاد بها الحصباءُ درُ وُتَرُ بها ... عبيرُ وأنفاسُ الرياح شمولُ
تسلسل منها ماؤها وهو مطلقُ ... وصحّ نسيمُ الروضِ وهو عليلُ
رمت إلى غرض الفخر بالسهم المصيب، وأخذت من أقسام الفضل بأوفى نصيب، وكفاها بمسجد الجنة دليلا على البركة، وببات المسك عنوانًا على الطيب يغمر من القرى موج كموج البحر. إلا أن الرياح لاعبتنا ملاعبة الصراع، وكدرت القرى بالقراع، فلقينا من الريح ما يلقاه قلب المتيم من التبريح، وكلما شكت إليها المضارب شكوى الجريح، تركتها بين المائل والطريح.
ولما توسط الواقع، والتقمت أنجم الغرب المواقع، صدقتنا الريح الكرة، وجادتنا الغمائم كل عين ثرة، حتى جهلت الأوقات، واستراب الثقات، فتستر الفجر بنقابه، وانحجز السرحان في غابه، وكان أداء الواجب بعد خروج الحاجب، وارتحلنا وقد أذن الله للسماء فأصحت، وللغيوم فتنحت، وللريح فلانت بعد ما ألحت، وساعد التيسير، وكان على طريق قنالش المسير، كبرى بناتها وشبيهتها في جداولها وجناتها، ما شئت من أدواج توشحت بالنور وتتوجت وغدران زرع هبت عليها الصبا فتموجت، سفر بها الشقيق الأرجواني عن خدود الغواني، فأججلنا العيون في رياض، وتذكرنا قول القاضي عياض
أنظر إلى الزرع وخاماته يحكي ... وقد ماس أمام الرياح
كتيبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح
مثل أهلها فسلموا، ومن عدم النزول بهم تألموا. وأتينا فحص الأنصار فتجددت له ملابس المجادة، وتذكر عهود من حل به عند الفتح الأول من السادة، ولما خفقت به راية سعد بن عبادة ولم تزل الركائب تفلي الفلاة فرى الأديم، وأهلة السنابك صيرها السير كالعرجون القديم، حتى ألحفتنا شجرات المصنبر بشذاها المعنبر وراقتنا بحسن ذلك المنظر سوار مصفوفة، وأعلام خضر ملفوفة، ونخل يانعة البسوق، وعذاري كشفت حللها الخضر عن الشوق، كأنها شمرت الأذيال لتعبر الوادي، على عادة نساء البوادي، ينساب بينها الزلال المروق، ويغني فوقها الحمام المطوق، فهيج الجوي وتجدد عهود الهوى صبحتنا بها أصوات تلك القماري، وأذكرتنا قول بن حصن الحجاري:
1 / 2
وما راعني إلا ابن ورقاء هاتف ... على قنن بين الجزيرة والنهر
أدار على الياقوت أجفان لؤلؤ ... وصاغ على المرجان طوقًا من التبر
حديد شبا المنقار داج كأنه ... شبا قلم من فضة مد في حبري
توسد من عود الأراك ... ومال على طي الجناح مع الفجر
ولما رأى دمعي مراقًا أرابه ... بكائي فاستولى على الغصن النضر
وحث جناحيه وصفق طائرًا ... فطار بقلبي حيث طار ولا أدري
مفسق طوق الأزودي كلكل ... موشى الطلى إحدى القوادم والظهر
ونزلنا بظاهر حصن شيرون، وقد ترعرع شباب اليوم، وطالبنا غريم الظهيرة بمنكسر فرض النوم، حصن أشم، ومناخ لا يذم. نزلنا الهضبة بازائه، وغمرنا من بره ما عجزنا عن جزائه، وعثرنا بين المضارب، ببعض العقارب، سود الرؤوس، متوجة بأذنابها في شكل الطاؤوس، فتلقينا ذلك بسعة الصدر وقلنا العقرب من منازل البدر. ورحلنا بمثل تلك الصورة، نلتحف ظلال وادي المنصورة، وسمر الأندية، وسلطان الأودية. يالها من أرائك مهدلة السجوف، وجنات دانية القطوف، ينساب بينها للعذب الزلال، أرقم سريع الانسلال، وصارم يغمد في جفون الظلال، يتلاعب بين أيدينا شمالا ويمينًا، فطورًا عصباه ثعبانًا، وآونة تنعطف صولجانًا، وتارة تستدير أفلاكًا، وربما نسجت منه أيدي الرياح شباكًا، وأم حسن فيه ذات لسن، تبعث بنغماتها لواعج الشجون، وتقيم دين ابنها في الخلاعة والمجون. وسرنا ودر الحصى بساط الأرجل ركابنا، ودنانير أبي الطيب تنثر فوق أثوابنا، ترقب نجوم القلاع والحصون، من خلل سحاب الغصون. والنساء إلى مشاهدة التبزير قد حفت، وبشاطئ الوادي قد صفت، قد أبرزن الثنايا ببروق الثنايا، وسددن سهام المنايا، عن حواجب كالحنايا، يشغلن الفتى عن شئونه، ويسلبن الروض لين صونه، هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه.
وطالعنا برشانة حرسها الله، فحيتنا ببواكر الورد، ونضت عنا برود البرد، وشملتنا بالهواء المعتدل، وأظلتنا برواقها المنسدل. بلد أعيان وصدور، ومطلع نجوم وبدور، وقلعة سامية الجلال، مختمة بالكواكب متوجة بالهلال. حللناها في التبريز الحفيل، والمشهد الجامع بين الذرة والفيل، حشر أهلها بين دان ونازح، ومثل حاميتها من نايل ورامح، فكان ذلك المجتمع عيدًا، وموسمًا سعيدًا، وبتنا في ليلة للأنس جامعة، ولداع السرور سامعة. حتى إذا الفجر تبلج، والصبح من باب المشرق تولج، سرنا وتوفيق الله قائد، ولنا من عنايته صلة وعائد، تتلقى ركابنا الأفواج، وتحيينا الهضاب والفجاج إلى قتوريه، حرسها الله، فناهيك من مرحلة قصيرة كأيام الوصال، قريبة البكر من الآصال. كان المبيت بازاء قلعتها السامية الارتفاع، الشهيرة الامتناع، وقد برز أهلها في العديد والعدة، والاحتفال الذي قدم به العهد على طول المدة، صفوفًا بتلك البقعة، خيلا ورجلا كشطرنج الرقعة، لم يتخلف ولد عن والد، وركب قاضيها ابن أبي خالد، وقد شهرته النزعة الحجازية، ولبس من حسن الحجى زية، وأرمي من البياض طيلسانًا وصبغ لحيته بالحناء والكتم، ولاث عمامته واختتم، والبداوة تسمه على الخرطوم، وطبع الماء والهواء يقوده قود الجمل المخطوم، فداعبته مداعبة الأديب للأديب، وخيرته بين خصلتي الذيب، وقلت نظمت مقطوعتين إحداهما مدح والأخرى قدح، فإن همت ديمتك وكرمت شيمتك فللذين أحسنوا الحسنى وإلا فالمثل الأدنى. فقال أنشدني لأرى على أي الأمرين أثب، وأفرق بين ما اجتني وما أجتنب، فقلت:
قالوا وقد عظمت مبرة خالد ... قاري الضيوف بطارف وبتالد
ماذا أتمت به فجئت بحجة ... قطعت بكل مجادل ومجالد
إن يفترق نسب يؤلف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد
1 / 3
وأما الثانية فيكفي من البارق شعاعه، وحسبك من شر سماعه، ويسير التنبيه كاف للنبيه. فقال: لست إلى قراي بذي حاجة، وإذا عزمت فأصالحك على دجاجة، فقلت: ضريبة غريبة، ومؤونة قريبة، عجل ولا تؤجل، وإن انصرم أمد النهار فأسجل. فلم يكن إلا كلا ولا، وأعوانه من القلعة تنحدر، والبشير منهم بقدومها يبتدر، يزفونها كالعروس فوق الرؤوس، فمن قائل أمها البجابيه، وقائل أخوها الخصي الموجه إلى الحضرة العلية. وأدنوا مربطها من المضرب عند صلاة لمغرب، وألحفوا في السؤال وتشططوا في طلب النوال فقلت يا بني اللكيعة، ولو جئتم ببازي بماذا كنت أجازي، فانصرفوا وما كادوا يفعلون، وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون حتى إذا سلت لذكاتها المدى، وبلغ من عمرها المدى، قلت: يا قوم، ظفرتم بقرة العين، وابشروا باقتراب اللقاء فقد ذبحت لكم غراب البين. وكانت البلاد الشرقية قد أخلفتها الغيوث وعدت عليها للعدو الليوث، فحيتنا على الشحط، وشكت إلى سعادة مقدمنا معرة القحط. فظهرت مخيلة السعد، فأذن الله في إنجاز الوعد، وقربت غريم الغمائم في المقام أعوان الرعد، فاعترف وسمح وانقاد لحكم القضاء بعد ما جمح. ولم يسلم بكيف ولا حتى، وقضاها المدين في دفع شتى. هذا وإن كان وإنما وإن عزم، وأمده كاد أن ينصرم، فمنفعته بحول الله كبرى، وفيه مآرب أخرى. فتنفس صدر الجو وزفر، وقطب وجهه بعد ما سفر، وسحَّ الغمام وانسكب، وارتكب من أمر الهنا ما ارتكب فلم تجف له قطره، ولا خطرت بباله للصحو خطره، فسئمنا ذلك العارض الهطال، وسهرنا الليل وقد طال، وما راعنا والصبح قد نم من خلف الحجاب، وقضيته قد انتقلت من السلب إلى الإيجاب، والغمام لا يفتر انسكابه إلا السلطان قد ارتحل ركابه. فضربنا بالقباب وجه الصعيد، واستقبلنا طية الغرض لبعيد، نهيم في ذلك الوادي، ونكرع من أطواقنا في غدران الغوادي وقد تهدلت الفروع، وخضلت بالغيث تلك الزروع كأنما أخلفتها الريح فترامت، وسقتها كؤوس السحب حتى سكرت ونامت، والمذانب أمثال الصلال قد تفرعت وكأنما رعناها فانسابت أمامنا وأسرعت، ومخيلة الصحو لا تتوسم والجو تستضحكه بشأننا فلا يتبسم. ومررنا بوادي المنصورة التي نسب الوادي إليها، وعرضت مراكب تياره بين يديها وأطلالها بالية. وبيوتها خاوية خالية، ومسجدها بادي الاستكانة خاضع للبلى على سمو المكانة، فعبرنا واعتبرنا وأبصرنا فاستبصرنا وقول أبي الطيب قد تذكرنا:
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفنا فتتبع
ثم بدلنا ذلك الوادي بالعراء، واستقبلنا أرضًا شبيهة بالصحراء ملاعب للريح، ومنابت للسدر والشيخ، سحبت بها عين السحاب فضول الذيل، وطفف الغمام في الكيل، وغار النور، وفار التنور، وفاضت السماء، والتقى الماء، فالركائب تسبح سبح الأساطيل، والأرجل تزهق زهوق الأباطيل، والمبارك تعدى، والأدلة لا تهتدي، واللباس قد غير الطين من شكله، والإنسان قد رجع من الماء والحمأ إلى أصله.
وخيمنا في بيره، حرسها الله بالثغر الأقصى ومحل الرباط الذي أجر ساكنه لا يحصى. بلدة عدوها متعقب، وساكنها خائف مترقب، مسرحة بعير ومزرعة شعير، إذا شكرت الوابل، انبتت حبها سبع سنابل، ونجادها بالهشيم قد شابت، وزروعها قد دعا بها الفصل فما ارتابت، ونداء وآتوا حقه يوم حصاده أجابت. أرحنا بها يومًا صحا فيه الجو من سكرته، وأفاق من عمرته، فقيل للنفوس شأنك ودمائك ويا أرض ابلعي ماءك. وتجلت عقيلة الشمس معتذرة عن مغيبها مغتنمة غفلة رقيبها.
ورحلنا من الغد وشمل الأنواء غير مجتمع، والجو قد أنصت كأنه يستمع، بعد أن تمخض الرأي عن زبدته، واستدعي من الأدلاء من وق بنجدته، وكثر المستشار، ووقع على طريق قيشر الاختيار، وانتدب من الفريق، إلى دلالة تلك الطريق، رجل ذو احتيال، يعرف بابن هلال، استقبل بنا شعبًا مقفلًا، ومسلكا مغفلًا، وسلما حرج الدرج، سامي المنعرج، تزلق الذر في حافاته، وتراع القلوب لتوقع آفاته، ويتمثل الصراط عند صفاته. أو عار لا تتخلص منها الأوعال، ولا تغنى السنابك فيها ولا النعال. قطعنا بياض اليوم في تسنم جبالها، والتخبط في حبالها، نهوى من شاهق إلى وهد، ونخوض كل مشقة وجهد، كأننا في حلم محموم، أو أفكار مغموم أو برشام نوم.
1 / 4
ولما طال مرام العروج إلى جو السماء ذات البروج، قلت يا قوم انظروا لأنفسكم فيما أصبحتم فيه، واعلموا أن دليلكم ابن هلال عزم على اللحاق بأبيه، ثم أخذنا في الانحدار بأسرع الابتدار نهوى من المرقب السامي الذرى ونهبط من الثريا إلى الثرى، ونتمثل في ذلك المسلك الواعر، بقول الشاعر:
بطريق بيرة أجبل وعقاب ... لا يرتجي فيها النجاة عقاب
فكأنما الماشي عليها مذنب ... وكأنما تلك العقاب عقاب
حتىإذا استوينا على صفحة الأرض، وتذكرنا بذلك الصراط يوم العرض، تخلصنا من السبيل الوبيل، وانتقلنا الهمز إلى التسهيل، ونزلنا والركائب قد كلت، والمتاعب قد حلت، فكانت مواقد النيران، بوادي العبران، بقعة جديبة المرعى، معدن لكل عقرب تدب وحية تسعى غير أن الله دفع مضرتها، وكفى ببركة الأيالة اليوسفية معرتها.
ولما أصبح استقبلنا الفحص الأفيح، بساط ممدود الصرح، يعجز عن وصفه لسان الشرح، طاردنا قنيصه على طول صحبته للأمان، من حوادث الزمان. فأثرنا كل ذلق المسامع، ناء عن إدراك المطالع، كثير النفار، مصطبر على سكني القفار، يختال في الفروة اللدنة الحواشي، وينتسب إلى الطائر والماشي، فغلبناه على نفسه، وسلطنا عليه آفة من جنسه، وحللنا مقادة طل طويل الباع، رحب الذراع، بادي النحول، طالب بالدخول، كأنه لفرط النحول عاشق، أو نون أجادها ماشق، أو هلال سرار، أو قطعة سوار، أو خبية أسرار رمينا منه بأجله على عجله، وقطعنا به عن أمله، فأصبح رهين هوان مطرقًا بأرجوان. ووصلنا الخطا بين مجاثم الأرانب، وأفاحيص القطا في فحص يتلقى الساير بترحيب واصل إلى اشكوذر حللناها والنهار غض الشبيبة، والجو يختال من مذهب سناه في الحلي العجيبة.
واستقبلنا المرية، عصمها الله، في يوم سطعت أشعة سعدة، وتكفل الدهر بإنجاز وعده، مثل أهلها بجمعهم في صعيد سعيد، ويدعوهم عيد عهدهم به بعيد، فلم يبق حجاب إلا رفع، ولا عذر إلا دفع، ولا فرد إلا شفع في يوم نادي بالجمهور إلى الموقف المشهور، وأذن الله لشهره بالظهور على ما تقدمه من الشهور، رمت البلدة فيه بأفلاذها وقذفت بثباتها وأفذاذها، وبرز أهلها حتى غص بهم سهلها وقد أخذهم الترتيب، ونظمهم المصف العجيب، تقدمت مواكب الأشياخ الجلة، والفقهاء الذين هم سرج الملة، وخفقت أصناف البنود المطلة، واتسقت الجموع التي لا تؤتي بحول الله من القلة، وتعددت بمناكب البدور أشكال الأهلة، في جموع تسد مهبات الصبا، وتكاثر رجل الدبا، صفوفًا كصفوف الشطرنج على أعناقهم قسي الفرنج، وقد نشروا البنود الشهيرة الألوان واستشعروا في يوم السلم شعار الحرب العوان، يتسابقون من الاحتفال إلى غايه، ويرجع كل منهم إلى شعار وإلى رايه، وقد أحسنوا بالمشيخة الاقتداء، ورفعوا بالسلام النداء.
وامتاز خدام الأساطيل المنصورة في أحسن الصورة، بين أيديهم الطبول والأبواق تروع أصواتها وتهول. وتأنق من تجار الروم من استخلص العدل هواه، وتساوي ونجواه، في طرق من البر ابتدعوها، وأبواب من الاحتفاء شرعوها، فرفعوا فوق الركاب المولوي على عمد الساج، مظله من الديباج، كانت على قمر العلياء غمامه، وعلى زهر المجد كمامه، فراقتنا بحسن المعاني، وأذكرتنا قول أبي القاسم ابن هاني:
وعلى أمير المسلمين غمامه ... نشأت تظلل وجهه تظليلا
نهضت بعبء الدر ضوعف نسجه ... وجرت عليه عسجدًا محلولا
1 / 5
إلى غير ذلك من أروقة عقدوها، وكرامة أعدوها. وطلعت في سماء البحر أهلة الشواني، كأنها حواجب الغواني، حالكة الأديم، متسربلة بالليل البهيم، تتزاحم وفودها على الشط، كما تتدخل النونات في الخط، فياله من منظر بديع الجمال، أخذ بعنان الكمال، بكر الزمان وآية من آيات الرحمن، حتى إذا هالة القبة استدارت، وبالقمر السعد من وجه السلطان، أبده الله، أنارت، مثلوا فسلموا، وطافوا بركن مقامه واستلموا، وأجهروا بالتلبية، ونظروا، من وجهه الجميل إلى سعد الأخبية، وتزاحم من النساء الأفواج، كما تتدافع الأمواج، فرفع الجناح، وخفض الجناح، ومهد لهن سبيل العطف، وشملهن كنف الإشفاق واللطف. ولما أرحنا واسترحنا، والعيون في تلك البلدة سرحنا، رأينا قيد البصر، والمحاسن التي ترمي اللسان بالحصر، حضرة يستقبل بها الملك، ومربع يلتقي به القطار والفلك، رفعت راية الشرف القديم، وحازت على نظرائها مزية التقديم، ما شئت من ساحة طيبة الأديم، رحيبة كصدر الحليم، متناسبة الوضع بتقدير العزيز العليم، تبرجت تبرج العقلية، ونظرت وجهها من البحر في المرآة الصقيلة.
وركب السلطان أيده الله ثالث يوم وروده إلى مشاهدة قلعتها الشماء، المتعلقة بعنان السماء، فقدح سكانها زناد البارق المتألق، وتلعب صبيانها على جناح الطائر المحلق، وعلى سمو مكانها وجلالة شأنها، فدولابها شجى المزمار، ومياهها في انهمار، وخزائها تستغرق طول الأعمار، وعددها كفيلة لحماية الذمار، فعوذناها من كل خطب فادح، وحيينا بها بهو خيران وقصر ابن صمادح ونظرنا إلى تلك الآثار الكبار، والمشاهدة التي تغنى عن الأخبار، أشرقت العدو بريقه، وسطت بفريقه، وأخذت عليه فيها يد الله ثنايا طريقه، وخص المولى أيده الله قائدها بتشريفه وترفيعه، وتناول بيده الكريمة من صنيعه، في مجلس احتفى واحتفل، وفي حلل الكمال رفل، وأخذت مجالسها الخاصة والكبراء وأنشد الشعراء، فكان مقامًا جليلا وعلى الهمم العربية والشيم الملوكية دليلا.
وكان الرحيل عن تلك المدينة لا عن ملال، ولا عن ذم خلال، ولكن مقام بلغ أمدا، ورحلة انتهت إلى مدى.
أقمنا بها يومًا وثالثًا ... ويوم له يوم الترحل خامس
فيالها من خمسة علقها الدهر تميمة على نحره، وأثبتها معوذة في قرآن فخره. كانت لياليها معطرة النواسم، وأيامها كأيام المواسم.
وثنينا الأعنة إلى الإياب، وصرفنا إلى أوطاننا صدور الركاب، فكم من قلب لرحيلنا وجب، لما استقل ووجب، ودمع لوداعنا عظم انسكابه، لما رمت للبين ركابه، وصبر أصبح من قبيل المحال عند زم الرحال، وإلف أنشد بلسان النطق والحال:
ومضى وخلف في فؤادي لوعة ... تركته موقوتًا على أوجاعه
لم استتم سلامه لقدومه ... حتى ابتدأت عناقه لوداعه
وانصرفنا وعروشها تتعلق بأذيالنا، ومخاضات واديها تعترض صدور رجالنا، ورياحها تدافعنا عن المسير ومعالمها تقنع من إلمامنا ولو باليسير. واستبقبلنا وادي بجانه وما أدراك ما هو، النهر السيال، والغصن المياد الميال، والأفياء والظلال. المسك ما فت في جنباته، والسندس ما حاكته يد جناته، نعمة واسعة، وماجدة جامعة أزرت بالغوطتين زياتينه وأعنابه وسخرت بشعب بوان شعائبه بحيث لا تبدو للشمس آيات ولا تتأتى للحرباء حيات. والريح تلوى أعطاف غصون البان على أرداف الكتان، وتجاذب عرايش الخمائل، فضول الغلائل، إلى مرشانة وهي الكوكب الأعلى، والأشهب المحلي، والصباح إذا تجلى، والعروس على المنصة تجلى، وبها حلت الغيوم سموطها، ومدت عناكب السحاب خيوطها، فبتنا وعيون المزن باكية، والمنازل من توقع فراقنا شاكية واستقبلنا الوادي نجعله دليل تلك الطريق، ونتبعه في السعة والضيق، فكم مخاضة منه عبرنا، وعلى مشقتها صبرنا، حتى قطرت الأذيال والأردان، وشكت أذى الماء الأبدان، وتوفرت ذو الضجر، لملازمة الماء والحجر، ونسينا بمعاناته ألم البعاد، وذكرنا ببرده وإعادته مثلهم في الحديث العاد، اللهم غفرًا فضله مديد، ومنظر في الحسن فريد، وقد راق شأنه، وتصاف على الشط سكانه، فرأينا الحور تحت سماط الحور، والنور فوق بساط النور.
1 / 6
ولما كان عمر اليوم ينتصف، وقد بلونا من بعد المشقة ما لا نصف، وتخلصنا من ذاك الكمد، شارفنا دار عبلة في السند. واستقبلنا عبلة ولو رسانة، وأنخنا الركائب بطاهر فنيانة، بقعة حطها من النعم موفور، وبلدة طيبة ورب غفور، حللناها ومنادى العجماء يعرف، والشمس يراودها المغرب، وقد عظم أثر الهياط والمياط، وسطا الكلال بالنشاط. وبتنا والشيح وسائد مضاجعنا، وشكوى التعب حلم هاجعنا.
واستقبلنا المنهج الأمثل، والسهل الذي يضرب به المثل، بساط ممدود، ومن البحور الأرضية معدود، ولم يكن إلا كخطفة بارق، أو خلسة سارق، حتى تقلص الظل وطوى منشوره طي السجل.
واستقبلنا مدينة آش حرسها الله، وقد راجعت الالتفات، واستدركت ما فات، فتجلت المخدرات، وقذفت بمن اشتملت عليه الجدرات، وتنافس أهلها في العدة والعديد، واتخاذ شكك الحديد، فضاق رحب المجال، واختلط النساء بالرجال، والتف أرباب الحجا بربات الحجال، فلم نفرق بين السلاح والعيون الملاح، ولا بين حمر البنود وحمر الحدود، وبتنا بازائها ونعم الله كافله، ونفوسنا في حلل السرور رافلة. حتى إذا ظل الليل تقلص، وحمام الصبح من مخالب غرابه قد تخلص، سرنا وعناية الله ضافية، ونعمه وافية.
فنزلنا بوادي فردس، منازلنا المعتدة، وقلنا رجع الحديث إلى قتادة، وبها تلاحقت وفود التهاني، وسفرت وجوه الأماني. نزلنا منه بالمروج فتفتحت بها أزهار القباب البيض في بساطها العريض، وخطرت ببالي مقطوعة في مخاطبة المولى أنجح الله عمله ويسر من فضله أمله، أثبتها على حكم الاستعجال. وأوصفت على بيوتها خيل الارتجال:
إذا سرت سار النور حيث تعوج ... كأنك بدر والبلاد بروج
لك الله من بدر على أفق العلا ... يلوح وبحر بالنوال يموج
تفقدت أحوال الثغور بنية ... لها نحو أبواب القبول عروج
وسكنتها بالقرب منك ولم تزل ... تهيم هوى من قبله وتهيج
مررت على وعد من الغيث بينها ... فمنظرها بعد العبوس بهيج
فكم قلعة قد كلل النور تاجها ... ورف عليها للنبات نسيج
ولا نجد إلا روضة وحديقة ... ولا غور إلا جدول وخليج
أبو سف دم للدين تحمى ذماره ... إذا كان للخطب الأبي ولوج
بفتية صدق إن دجا ليل حادث ... فهم سرج آفاقهن سروج
بقيت قرير العين ما ذر شارق ... وما طاف بالبيت العتيق حجيج
وبتنا نتعلق بأنفاس الحضرة العاطرة، ونستظل بسمائها الماطرة، ونعلن بالاستبشار، ونحن إلى الأهل حنين العشار:
وأبرح ما يكون للشوق يومًا ... إذا دنت الديار من الديار
فلما تبسم زنجي الليل عن ثغر الفجر، وشب وليد الصبح عن عقد الحجر، ولحظتنا ذكاء بطرفها الرمد، وقد بقي الليل فيه بقية الإثمد، استقبلنا الحضرة حرسها الله فأنست النفوس بعد اغترابها، واكتحلت العيون بإثمد ترابها، واجتلينا من فحصها الكريم الساحة، الرحب المساحة، ما يبهر العين جمالا، ويقيد الطرف يمينًا وشمالًا، أم البلاد والقواعد، وملجأ الأقارب والأباعد، تعدت مقعد الوقار، ونظرت إلى الأرض بعين الاحتقار، ومدت إليه البلاد أكف الافتقار، نصبت من الجبل منصة تعدت عليها، وقامت وصائف القرى في ذلك البساط بين يديها، فمن ذا يدانيها أو يداريها أو يناهضها في الفخار ويجاريها، وهي غاب الأسود، والأفق الذي نشأت فيه سحاب الجود، وطلعت به من الأمراء السعداء نجوم السعود، سيدة الأمصار، أو دار الملوك من أبناء الأنصار، ومصرع الطواغيت والكفار والغمد الذي استودع سيوف الله دامية الشفار ولله در بعض شيوخنا وقد عبر عنها ببيانه، واعتذر عن بردها في أوانه حيث يقول:
رعى الله من غرناطة متبوأ ... يسؤ كئيبًا أو يجير طريدًا
تبرم منها صاحبي عندما رأى ... مسالكها بالبرد عدن جليدًا
هي الثغر صان الله من أهلت به ... وما خير ثغر لا يكون برودًا
وصلناها والجو مصقول كالفرند، والسماء كأنها لصفائها مرآة الهند، أخرج الحلي من الإحقاق، وعقد أزرار الحلل على الأعناق، واطلع أقمار الحسن على الآفاق، وأثبت فخر الحضرة بالإجماع والاصفاق، على دمشق الشام وبغداد العراق.
1 / 7
حتى إذ بلغنا قصور الملك وانتهينا إلى واسطة السلك، وقفنا مهنئين ومسلمين، وقلنا أدخلوها بسلام آمنين. وألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر.
هنا انتهى التقييد والحمد لله على ما سناه من صنع جميل، وأولاده من بلوغ تأميل. وذلك يوم الأحد الثامن لصفر عام ثمانية وأربعين وسبعمائة، والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
تمت خطرة الطيف، والحمد لله وصلى الله على مولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا طيبًا
1 / 8