فلم أجد مشايخ إذا وجدت الحق، ولم أجد الحق إذا وجدت المشايخ، وأنا اليوم أعود إلى داري بالكوفة شيخا هما حطمته الأيام وثلمته الحوادث. - ما هذه الخواطر السود يا أبا الطيب؟ لقد أعطتك الدنيا من الجاه والمال وبعد المنزلة فوق ما تمتد إليه أعناق الشعراء.
وبلغ الركب الأهواز بعد عشرين يوما، فحط الرحال ليستريح وأسرع أبو الحسن السوسي عامل الأهواز فاستقبل المتنبي وأضافه أياما، ثم استأنف الرحيل إلى واسط، وفيها كتب عنه ابن حمزة بعض قصائده في عضد الدولة، واعتذر عن التخلف عنه لمرض نزل به، فسار الركب قاصدا إلى بغداد ثم الكوفة، ومر المتنبي ببلدة تسمى «جبل»، فنزل ضيفا على أبي نصر محمد الجبلي فأحسن الرجل وفادته وأكرم مثواه.
أما عصابة فاتك فقد أحكمت إنفاذ مؤامرتها، ورحلت عن الكوفة على النحو الذي دبرته، وربضت بدير العاقول تنتظر قدوم المتنبي، فأسرع إلى القوم شمر بن وهب جاسوسهم بفارس وأخبرهم برحيل المتنبي، وبأنه كان يرقب طريق سيره، وبأنه رآه بالأمس وهو يحط رحاله بجبل، فتواثبوا إلى خيولهم وأخذوا يجوبون الطريق بين دير العاقول وجبل.
وحينما عزم المتنبي على الرحيل جلس إليه أبو النصر، وقال: على أي شيء أنت مجمع يا أبا الطيب؟ - لقد عزمت على الرحيل مساء اليوم، وسأتخذ الليل مركبا فإن السير فيه يخف علي. - نعم الرأي يا أبا الطيب. ولكني أرى أن يكون معك جماعة من رجال هذه البلدة الذين يعرفون هذه المواضع المخيفة. فقطب المتنبي وجهه، وقال: لم تقول هذا يا أبا النصر؟ - إنما أردت أن تستأنس بهذه الجماعة في الطريف فصاح في غضب: أما ونجاد السيف في عنقي فما بي حاجة إلى مؤنس غيره. فأجابه في مضض: الرأي لك يا أبا الطيب، وإنما كنت لك نصيحا. - إن تلويحك يا أبا نصر ينبئ بشيء، فعرفني جلية الأمر. فزفر الجبلي زفرة طويلة وقال: جلية الأمر يا سيدي أن فاتكا الأسدي كان عندي منذ ثلاثة أيام، وهو يتقد عليك غضبا؛ لأنك هجوت ابن أخته ضبة، وقد بدرت منه بوادر توجب عليك الاحتراز والتيقظ، ومعه نحو ثلاثين من بني عمه يأكلون النار ويحطمون الحجر الأسود. فالرأي يا سيدي أن تأخذ معك عشرين رجلا يسيرون بين يديك إلى بغداد. فانتفخت أوداج المتنبي من الغيظ وصاح: لا والله لا أرضى أن يتحدث عني الناس بأني سرت في خفارة أحد غير سيفي.
فأسرع أبو النصر يقول وقد نفذ صبره: يا هذا، إني سأوجه معك قوما من قبلي يسيرون بسيرك، ويكونون في خفارتك. - لا والله لا فعلت شيئا من هذا. أمن عبيد العصا تخاف علي؟ والله لو أن مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات وبنو أسد كلهم معطشون بخمس، وقد نظروا إلى الماء كبطون الحيات، ما جسر لهم خف ولا ظلف أن يرده. معاذ الله أن أشغل فكري بهم لحظة عين، إنهم كلاب عاوية يا أبا نصر، ولن يمسوا شعرة مني. - قل: إن شاء الله يا أبا الطيب. - هي كلمة مقولة لا تدفع مقضيا، ولا تستجلب آتيا.
وركب المتنبي ومعه عبيده وذخائره في ليلة حالكة الظلام، وأخذ طريقه حتى حاذى النعمانية، ثم أغذ السير حتى قارب الصافية وبينها وبين بغداد ستة عشر فرسخا. وفي اليوم الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة خرج عليه في هذا المكان فاتك ورجاله، فقاتلهم الشاعر قتال الأبطال، حتى قتل جميع من كانوا معه وبقي وحيدا يضرب بسيفه ذات اليمين وذات الشمال، وقد نال منه الضعف وأخذ منه الوهن ، فحمل عليه فاتك وطعنه في جنبه الأيسر فأسقطه عن جواده فارتمى على الأرض، وأخذ يجود بأنفاس قصار تزاحمها حشرجة الموت ويردد:
ردي حياض الردى يا نفس واتركي
حياض خوف الردى للشاء والغنم
إن لم أذرك على الأرماح سائله
فلا دعيت ابن أم المجد والكرم
Page inconnue