والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
ومن البلية عذل من لا يرعوي
عن جهله وخطاب من لا يفهم
واستمر الجدل على هذا النحو ساعات، وكان المتنبي يشترك فيه أحيانا في رفق ولين، وشعر الحاتمي أنه إزاء شاعرك لا يدرك، ورأى من عطف المتنبي ومجاملته في أثناء الحديث ما خفف من حدته وهدأ من ثائرته، ولم يجد في نفسه حرجا من أن يجامل المتنبي هنا ثم يدعي للوزير المهلبي أنه انتصر عليه وغلبه، ونهض فنهض المتنبي مشيعا له إلى باب الدار حتى ركب.
وزاد يقين أبي الطيب بأن السحاب يتراكم، وأن الصاعقة توشك أن تنقض، فصبر على دخن، وطوى نفسه على غيظ دفين.
وكان كافور قد أقام أبو عوف الكناني بدار الخلافة منذ سنين؛ لينقل إليه أخبارها وليكون سفيره لدى معز الدولة والخليفة، وقد أنبأه أبو عوف بقدوم المتنبي بغداد، وجاءه الجواب بأن يحتال لقتله غيلة، فإذا لم يستطع ألزمه طائعا أو مكرها أن يمدح كافورا بقصيدة تمحو كل ما جره عليه هجاؤه من العار. وبذل أبو عوف كل ما في مكنته من جهود لإطاعة أمر كافور فلم يوفق. وفي ليلة دخل عليه منصور الحلي وكان شريكا له في المؤامرة، فقال: لقد اهتديت إلى أحكم الطرق وأسلمها لإنفاذ المؤامرة. فاتجه إليه الكناني في تشوف قائلا: كيف؟ - كنت اليوم أزور أبا إسحاق الصابي ودار الحديث حول المتنبي، فأثنى عليه كثيرا وأخبرني أنه يود أن يدعوه إلى داره؛ ليؤدي له ما يستحق من كرامة، وليعتذر له عما ناله من سلاطة شعراء بغداد وشنيع هجائهم، فقلت له: إنني أؤدي عنك الرسالة يا سيدي، فاكتب إليه رقعة لدعوته غدا وأنا كفيل بحملها إليه. فكتب هذه الرسالة، وأخرج من كمه ورقة بخط الصابئ، فقال الكناني: وماذا نصنع بهذه الرسالة؟ - تسلمها إلى عبيدك غدا في الصباح، وتأمرهم أن يذهبوا بها إلى المتنبي بدار ابن حمزة، زاعمين أنهم عبيد أبي إسحاق، وأن سيدهم أمرهم أن يصحبوا المتنبي إلى داره. - ثم؟ - ثم يذهبون به إلى قصرك الخالي بالزبيدية، وهو قصر منعزل بعيد عن الدور، فإذا بلغوا به القصر وضعوه في إحدى غرفه وقيده، ثم هددوه بأنه إن لم ينظم قصيدة في مدح كافور قتل شر قتلة.
وجاء الصباح وتمت المؤامرة، ورأى المتنبي نفسه مقيد الرجلين وحوله زنوج تلتهب عيونهم بالغضب، وقد وضع كبيرهم على خوان ورقا وأقلاما، وهو يقول: هنا تكتب قصيدة في مدح مولانا كافور، وإلا ذهبت روحك إلى الشيطان! وتكلف المتنبي الرضا وأظهر الرغبة، فتركوه وذهبوا إلى سرداب القصر فعثروا به على دن ممتلئ بخمر من خمر البلح تغلي وتشتد وتقذف بالزبد، فتصايحوا تصايح الزنوح، وقال كبيرهم: لنشرب حتى يتم شاعرنا القصيدة، فتهافتوا على الشراب وأخذوا يكرعون ويغنون حتى صدعت الخمر رءوسهم.
وجلس المتنبي في غرفته يائسا ساخطا، ثم ألقى نظرة على النافذة فلمح من بعيد فتى ينصب فخه للطيور، فأشار إليه وكرر الإشارة فلم يلتفت، فبحث في الغرفة عن حصاة فقذفه بها فرفع الفتى رأسه، ورأى أبا الطيب وهو يشير إليه إشارات تدل على الاستغاثة وطلب النجدة، فأسرع إليه وصعد في السلم حتى وصل إلى غرفته، فأخبره المتنبي بالقصة وطلب إليه أن يفك قيده فقطعه بسكين كانت في حزامه، ثم قال: هلم يا شيخ فإنك تستطيع أن تخرج الآن آمنا، فلست أسمع بالدار إلا غناء سكارى. - إذا لقد سكر المناكيد! - يظهر ذلك. - دعني الآن أكتب شيئا ثم نخرج معا وأخذ الورقة وكتب فيها:
ولي همة من رأى همتها النوى
Page inconnue