لم يقدم إلي الصديق تلك الجريدة لأطلع على كلمة شكر مفيدة في جريدة سيارة، لكنه أراد أن التفت إلى كلمة قد لا تمر دون أن تترك في النفس أثرا غير الآثار التي تتركها في النفوس كلمات الشاكرين المحزونين، كلمة شكر للناس ممن كانوا يقدرون أن من واجب الناس أن يشكروهم بعد الله، وأن من حقهم حيال الناس أن يقبلوا الشكر، أو يردوه. كلمة شكر ممن كانت تنخفض لهم أرفع الرؤوس، وتتضاءل عند عزهم أعز النفوس. كلمة شكر ممن كانت الجباه والأنوف تتضع عند حشمهم، وترغم عند خدمهم، كلمة شكر يكتبها ابن الخاقان الأعظم في جريدة سيارة، وفى نهر من أنهارها التي تتسع لأكثر ما تخطه أقلام الكاتبين، ولأكثر ما يروى من أخبار الناشرين، ولأكثر كلمات الآخرين. فسبحان من يهز العروش، ولا يهتز عرشه، ويضع الأعلياء، ويرفع الأذلاء، وهو باق في عظمته وملكوته، لا يداني عزته عز، ولا تهز عرشه قوة.
أن الخواطر تدعو الخواطر ، وبعض الذكريات تدعو الذكريات، وبعض العبر تدعو للعبر. ولقد تذكرت فيما تذكرت عندما قرأت كلمة الشكر زيارة لقصر من قصور قياصرة النمسا. عرضت فيه للزائر أمتعتهم الغالية وزخارف الدنيا التي كانوا بها ينعمون. ونعيمها الذي كانوا فيه يتقلبون. وفى القصر رأيت غرف نومهم ونعيمهم، وغرف أسمارهم وعظمتهم. وفي غرفة من الغرف قليلة الرياش رأيت سريرا بسيطا، ومحرابا، ومنضدة، وضعت عليها كتب مقدسة. ووقف بنا الدليل، عند هذا السرير الضئيل، وفي هذه الغرفة الساكنة التي تتجلى فيها آثار الزوال، ومظاهر الاضمحلال، قال: هنا مات فرنسيس يوسف القيصر، وبموته مات عهد القياصرة. وفي هذه الغرفة التي وقفنا بها وقفة محيت كل مخايل العزة التي كانت تتجلى فيما رأت العين من غرف تخيل لنا الذل بعد العز، والإقلال بعد الإقبال، والشقاء بعد الهناء، والفناء بعد البقاء، وحول السرير الذي ذهب صاحبه إلى حيث لا يعود، وفى الغرفة التي خمدت فيها أنفاس كانت قوية، وخفت فيها صوت كانت تخفت عنده الأصوات، لم يبق إلا صدى يكاد يتردد حول المحراب. أن الملك ليس إلا لله، والعظمة الحقة هي له دون سواه، ثم هبطنا إلى حيث رأينا مكان مراكب القياصرة، وتصورنا الخيول المطهمات وجلالة الراكب، ورهبة المواكب، ولكن وقع نظرنا على المركبة التي حملت فيها الملوك إلى مقابرهم على مقربة من تلك المركبات التي كانوا يذهبون فيها إلى مواكبهم، فتذكرنا كذلك أنه يخلف الشقاء الهناء، وقد يخلف الفناء البقاء. فلو علم العاقلون من الملوك والأمراء والسادة والعظماء أن السماء في الأفق قد تتصل بالغبراء، ولو فطنوا أن الرفيع قد يسفل، وأن نجمه قد يأفل، لهونوا على أنفسهم نزعات الكبرياء، وخاطبوا الناس بلسان الناس، فإن لهم يوما تستبد بهم فيه يد الحدثان، وتصير لهجتهم كما صارت لهجة ابن الخاقان.
الرضا
القاهرة في 5 من أغسطس سنة 1926 ... في الأرض زهرة ناضرة، تشع من حولها هالة من الحسن والبهاء، قد تحسبها ابتسامة لماعة كالأمل. وقد تحسبها مراحا تطمئن إليه العين، ويستريح إليه النظر. وقد تحسبها نورا ينبعث من الأرض ليضئ بأشعة البشر ناحية من نواحي الوجود، وقد تحسبها عينا تتجه إلى السماء. ويلوح من حولها الرجاء.
وفى الأرض كذلك زهرة ذابلة قد تحسبها مثالا للانقباض والكآبة. وقد تحسبها النجم الآفل، والحسن الزائل، وقد تحسبها كلمة الانقطاع، أو تحية الوداع.
وربما كان السبب إلى نضرة الزهرة الباسمة ذلك الشباب الذي يتسلط على حياتها. وربما كان في ماء الحياة الساري في أنسجتها، وربما كان في محيطها المندي الذي يدفع عنها أعراض الذبول، ويبعد عنها زمن الأفول، ولكن أيا كان السبب، فإن الزهرة الناضرة تظل رمزا للبشر والرضا.
وربما كان سبب انكماش الزهرة الذابلة مرضا أصابها، أو قيظا لفحها، أو هرما بلغ منها، ومهما تعددت الأسباب فإنها تظل رمزا للانقباض والعبوس. •••
مثل الإنسان الذي يفيض البشر في وجهه، وينطلق الرضا من محياه، مثل الزهرة الناضرة تبعث الأنس إلى النفوس، والقرة إلى العيون، والانشراح إلى الصدور، ومثل الإنسان المكفهر الوجه، المقطب الجبين، مثل الزهرة الذابلة، إذ يدعو النظر إليها إلى الأسى والسآمة.
أن الأول ليفهم لغة الإشراق، ويحن إلى السرور. أما الثاني فلا يعرف إلا الظلمة، ولا تنطلق نفسه إلا إلى الديجور. الأول يطرب للغناء، ويتشوق لحنين الحداء. أما الثاني فلا يتسمع من الوجود إلا صيحة الشوم، ونعقة البوم. الأول يأنس لزقزقة الأطيار، وحفيف الأشجار. أما الثاني فيعبس للأقدار، وتسود في نظره أضواء الأقمار.
قد يجد العبوس لحالته تلك من الانقباض أسبابا. فتارة يحسبها من ضنك العيش، وتارة يتوهم لها أسبابا من السقام، وأوهاما من الآلام، وتارة يحسبها في خيبة الرجاء، أو في شدة البلاء، لكن لعل أدق الأسباب إلى سر حالته استعداده للجزع من الوجود، وخلوه من درع الرضا ووقاية التسليم.
Page inconnue