ثم نزلت إلى غرفة نومي، وأوصيت الخادم أن يوقظني مبكرا، حتى أتخير مكانا على ظهر السفينة أستطيع أن أعتزل فيه لأتبين منه أرض مصر من بعيد وقتما يقدر النظر على تبينها، ثم ألقيت بنفسي على مضجعي، ولكن خواطر كانت تضطرب في رأسي حالت بيني وبين نعاس كنت في حاجة إليه، ثم غلبني النعاس أخيرا، ثم أوقظت وقتما أردت، ثم صعدت إلى ظهر الباخرة، وشخصت ببصري إلى حيث يمكن أن يلوح الشاطئ، وكان الفلك يسير. وكأن الفلك كان سيره بطيئا. ومن بعيد بعيد تبينت خطا طويلا قائما يتجلى في الأفق. تبينت تلك الأرض التي طالما قدرت لها جميلا. وتجاوزت لها عن ذنوب وسيئات، فنهضت واقفا، ومددت ذراعي إلى حيث أرى ذلك الشبح المحبوب، وقلت سلاما، وتحية ورحمة من الله عليك مصر أمنا الرءوم. لو أن الله قضى على الساعة بالموت للقيته مستريحا، وأغمضت عيني على شعاع من النور، يفيض من شمسك، ولفظت آخر زفير يحمله الصدر من هوائك. ولو كان للساني أن ينطق وقتئذ بكلمة لكانت دعوة لك صالحة ختامها الحمد لله رب العالمين، ثم انتقلت من مكاني إلى مكان آخر حيث أحضر لي قلم وقرطاس، فكتبت هذه الكلمات «أحب مصر؛ لأن كل ما يتصل بي من خير إنما هو من فضلها وبركاتها. أحب مصر؛ لأني أحب آمالا تولدت في منها؛ ولأني أحب خيرا يوحيه إلي ما فيها من شر؛ ولأني أحب صالحا يوحيه إلي ما فيها من فاسد؛ ولأني أدرك فيها نقصا يحبب إلي الكمال.
أحب مصر؛ لأني أراها مزرعة واسعة ضعفت أرضها وهرم شجرها المثمر، وأساءت الحشائش المفسدة إلى نبتها الطيب ، فلعلي أصلح فيها باعا من الأرض، ولعلي أعين فيها نبتة نافعة على النماء، ولعلي أستمتع يوما فيها بثمرة ناضجة. أحب مصر مستودع عظام ودماء أنا جزء منها، ومستودع تاريخ وأحلام لي في جميعها نصيب، ومستودع قلوب تحنو علي، وتتصل دقاتها بدقات فؤادي.»
ثم أحضر لي الخادم طعاما وبعد أن طعمت صعدت مرة أخرى على ظهر الباخرة. تبينت عن بعد دور الإسكندرية العالية فقلت: «سلام عليك أيتها الدور مادام في أهليك من يتقي الله في حق هذه البلاد. سلام عليك ما ظلت فيك نفوس ترعى بإخلاص صالح هذا الوطن»
ثم أفلتت دمعة من عيني من أثر الانفعال، فنزلت إلى غرفتي لأهيئ متاعي، وأنزل إلى البر وألقي أرض الوطن.
لعام 1924
القاهرة في 12 من يناير سنة 1924
في مقدم هذا العام، انتقلت من داري القديمة التي كنت أسكنها إلى تلك الدار التي أسكنها الآن. وبينما كنت أعمل ليلا في ترتيب أمتعتي. وإخراج كتبي، والصور التي أزين بها الحوائط من حقائبها وصناديقه،ا إذ أخرجت من أحد تلك الصناديق صورتين تعودت أن أحلهما في غرفتي مكانا، يكثر عليه ترداد النظر.
كانت إحدى الصورتين لعزيز قضى في شرخ الشباب، فكنت أخرجها من قاع الصندوق كأني كنت أخرج تذكارا ماضيا من أعماق القبور. وكانت الصورة الأخرى لعزيز بعيد مازال حيا، تشخصه مذ كان في ربيع العمر باسما بهيا.
أخذت الصورتين برفق، ونظرت إليهما نظرة دعت إلى نفسي عظة وحسرة، وامتزجت ذكراهما في الخاطر بانتقالي من دار إلى دار؛ بل امتزجت ذكراهما في الخاطر بانتقالي في العمر من عام إلى عام، ثم تغلغلت تلك الذكريات المختلفة من حبيب مات، وعام فات، وعزيز غيرته الأحداث والأوقات!!
تغلغلت في النفس تلك الذكريات، فهاجت الخيال، والعواطف والفكر. حول ذلك الدهر وحول ما يسوق من عبر. •••
Page inconnue