Carte de la Connaissance
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
Genres
لوقت طويل، كان المؤرخون يفترضون أن النسخ المطبوعة التي خرجت من مطبعة مانوتيوس صنعت باستخدام مجموعة مخطوطات بيساريون، التي كان قد تبرع بها إلى فينيسيا قبل ذلك بعشرين عاما، ولكن لا يبدو، في الواقع، أن الأمر كان كذلك. فقد وصلت الكتب في شحنتين؛ الأولى حملت من روما، في عام 1469، عبر سلاسل جبال الألب في ثلاثين صندوقا على ظهر قافلة من البغال، وأرسلت البقية من مدينة أوربينو، حيث كان بيساريون قد تركها في عناية الدوق فيديريكو دي مونتيفيلترو، الذي كان رياضيا مولعا بالرياضيات وراعيا للتعليم. لدى وصولها إلى فينيسيا، خزنت في غرفة في قصر الدوق، وهي لا تزال في صناديق الشحن خاصتها، وظلت هناك، تبلى على مهل، حتى سنة 1531، عندما أخرجت أخيرا من الصناديق ووضعت على الأرفف في غرفة فوق أبواب كنيسة البازيليكا. وسيمر ثلاثون عاما أخرى قبل أن يبنى أخيرا مبنى المكتبة، الذي كان بيساريون قد وعد به في مقابل أن يوصي بكتبه، لتولد بذلك مكتبة سان مارك الوطنية. وهكذا، وفي واحدة من أشد مفارقات تاريخ الطباعة حزنا، في الوقت الذي كان مانوتيوس ينشر فيه نسخه اليونانية المهمة لكتابات أرسطو وأرسطوفانيس والباقين، كانت توجد نسخ نموذجية من أعمالهم، بلغتها اليونانية الأصلية، تقبع في صناديق في الجانب الآخر من المدينة، ولكن بعيدا عن متناوله.
شكل 8-5: شعار «الدرفيل والمرساة» الخاص بدار ألدين للطباعة على الصفحة الأولى لطبعة سنة 1525 من الأعمال الكاملة لجالينوس.
كانت أعظم مواهب مانوتيوس هي قدرته على تسويق كتبه؛ فكان «واحدا من أول من ألموا إلماما تاما بالكيفية التي كان عالم الكتب قد تغير بها في العشرين سنة الأخيرة من القرن الخامس عشر، ووضعوا استراتيجية للتسويق والدعاية أخذت في الاعتبار هذه التغيرات»،
16
وقاد المجال. وبدءا من عام 1502 وما بعده، كان شعار «الدرفيل والمرساة» محوريا لهذه الاستراتيجية؛ فكان الشعار، الذي كان يمهر على الصفحة الأولى لكل إصداراته، ضمانة لجودة دار ألدين للطباعة، مفعما بهالة من المسئولية والتميز؛ ومن المحتمل أنه كان أول مثال على التمييز السلعي الناجح، والمدى الذي وصل إليه تزويره من قبل طابعين آخرين هو دليل واضح على قوته.
كان أبرز مطبوعات دار ألدين للطباعة هي الأعمال الكاملة لأرسطو، باللغة اليونانية؛ التي كانت مشروعا ضخما من خمسة مجلدات اشترك فيه علماء من كل أنحاء أوروبا يمدونه بالمخطوطات اللازمة ويحررون النسخة النهائية. ولعب توماس لينيكر، العالم الإنساني الإنجليزي، دورا أساسيا؛ فأثناء إقامته في فينيسيا في تسعينيات القرن الخامس عشر، ساعد ألدوس في تحرير الطبعة، والنسخة التي عاد بها إلى الديار، المطبوعة على جلد الرق، موجودة، في الوقت الحالي، في مكتبة نيو كوليدج، في أكسفورد، واسمه
Thomae Linacri ، منقوش بعناية على كل مجلد. وللمرة الأولى منذ العصور القديمة، كانت الفلسفة الأرسطية بكامل نطاقها متيسرة لأولئك الذين يستطيعون تحمل كلفتها، ومن يعرفون اللغة اليونانية، ولكن إنتاج تلك المطبوعات الطموحة كان مكلفا ولم يكن يدر كثيرا من المال. وسرعان ما أدرك ألدوس أن عليه أن ينوع برنامجه ليشمل كتبا كانت أكثر جاذبية لجمهور أوسع، وأنه يتعين أن تطبع باللغة اللاتينية أو الإيطالية. كانت المثل الإنسانية كلها حسنة جدا، ولكن كان عليه أن يبقي دار الطباعة صامدة.
شهدت الأعوام الأخيرة من القرن الخامس عشر والنصف الأول من القرن السادس عشر نشر كثير من النصوص الفلسفية والأدبية باللغة اليونانية. وهذا القول لا ينطبق على الطب؛ إذ ببساطة لم تكن المخطوطات متاحة للطابعين وكانت قلة قليلة من الأطباء هم الذين يستطيعون القراءة باللغة اليونانية؛ لذا من المشكوك فيه أنه كان من الممكن لإصدارات مطبوعة من النصوص الطبية أن تلقى نجاحا كبيرا، وغني عن القول أن مجموعة بيساريون احتوت على مجموعة جيدة من أطروحات جالينوس، ولكنها كانت كما رأينا، قابعة في قصر الدوق دونما استخدام. كان التعليم الطبي راسخا في المنهج الدراسي للجامعة، استنادا إلى نصوص «أرتيسيلا». اعتبر أناس كثيرون هذه النصوص كافية، ولكن ، خلف الكواليس - أو بالأحرى، بين الجدران التي تحوي المجموعات الخاصة - كانت الأمور آخذة في التغير. ففي أثناء بحثهم عن المخطوطات، كان علماء الإنسانيات قد اكتشفوا لا محالة أعمالا لجالينوس لم تكن معروفة في السابق (على ما يبدو أنه يوجد مخزون يكاد لا ينفد؛ فأحيانا ما يكشف عن أعمال جديدة حتى في يومنا هذا، بعد 2000 عام تقريبا من كتابتها).
11
وجعل فحص هذه الأطروحات الجديدة الباحثين على دراية بجوانب من الطب الجالينوسي غير موجودة في التقاليد العربية وتقاليد العصور الوسطى، وحفزت هذه الأطروحات آفاقا جديدة للبحث وأبرزت التناقضات في تلك التقاليد. عندما صادفوا نظرية من الواضح عدم صحتها، كان توقيرهم لجالينوس قد بلغ درجة أنهم ألقوا باللائمة على النساخ الذين نسخوا النصوص؛ ففي هذه المرحلة كان مستبعدا أي تصور مفاده أنه ربما كان مخطئا. الطريف في الأمر أن النصوص الجديدة وتراجم النصوص القائمة، لم تجبر العلماء في النهاية على القبول بأن جالينوس ارتكب كثيرا من الأخطاء الجوهرية فحسب، بل أجبرتهم على الاستعاضة عن نظرياته بنظريات جديدة من عندهم.
Page inconnue