Carte de la Connaissance
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
Genres
مولت الثروات الهائلة التي نتجت عن نجاح فينيسيا الاقتصادي بناء قصور شاسعة على ضفاف القنال الكبير ، عرفت باسم
casas
أي المنازل. وقد اختصرت الكلمة إلى
Ca’
في اللهجة الفينيسية التي تتسم بتقطع الصوت. كانت توجد بيوت خاصة ومكاتب عامة لسلالات النبلاء العظام، حيث كانوا يأكلون مع أطفالهم ويعقدون الصفقات مع التجار القادمين من الخارج. كان المظهر هو كل شيء، فلم يكن ثمة حاجة لبناء قلاع محصنة وحفر خنادق في مدينة محاطة بالمياه. ومنح هذا المعماريين والبنائين الفينيسيين حرية التركيز الكامل على الجمال والشكل. تنافست عائلات النبلاء على امتلاك أروع الواجهات ذات الشرفات المغالى فيها والنقوش الغنية بالتفاصيل. وبالغت عائلة بون في هذه المنافسة أيما مبالغة بجعل الأسوار الخارجية لقصرهم مطلية بالذهب؛ مما أكسبه لقب «منزل الذهب».
أصبح الانحطاط والبذخ سمتين مميزتين لحياة النبلاء، ولكن كذلك كان حال الثقافة والبحث العلمي، اللذين واصلوا السعي فيهما بلا خجل، داعين ألمع الباحثين إلى المجيء والعمل في المدينة. درس النبلاء الفينيسيون الشبان في البيت على يد مدرسين خصوصيين وفي المدارس التي أنشئت مؤخرا، التي اتبعت المنهج الدراسي الإنساني، فدرست اللغة اليونانية إلى جانب مواد أكثر تقليدية، مثل الخطابة والمنطق. وعندما أنشئت مدرسة للفلسفة في حي ريالتو، سنة 1397، كانت الرياضيات جزءا لا يتجزأ من هذا المنهج. أعدت هذه المؤسسات تلاميذها للدراسة في جامعة بادوا، التي حظيت، في منتصف القرن الخامس عشر، بسمعة ممتازة فيما يختص بتدريس الفنون وكذلك الطب. سافر الباحثون من كل أنحاء أوروبا لدراسة الفلسفة الأرسطية الطبيعية، وأول بضعة كتب من أطروحة «العناصر» لإقليدس وأجزاء من كتاب «المجسطي». في الطب، كانت الكتب الرئيسية لجالينوس وأبقراط، بالإضافة إلى أقسام معينة من ترجمة جيرارد الكريموني لكتابي «القانون» لابن سينا و«الحاوي» للرازي.
كانت بادوا قد صارت تحت الحكم الفينيسي في عام 1405، وابتداء من عام 1407، حظر على شبان فينيسيا الدراسة في أي مكان آخر في إيطاليا، وهو مثال تقليدي على حاجة الدولة إلى السيطرة، ولكن كان لهذا أيضا آثاره الإيجابية؛ إذ كفل تبادلا مستمرا للأفكار بين المكانين. شجع تأثير بادوا المفكرين الفينيسيين على التركيز على العلوم، على العكس من عاصمتي ثقافة عصر النهضة الأخريين ، فلورنسا وروما، حيث كانت السيادة والأفضلية للفن والعمارة والفلسفة والأدب. فكونهم تجارا وملاحين، كان الفينيسيون براجماتيين، يولون اهتمامهم لتطبيق الأفكار العلمية على المعضلات العملية التي كانوا يصادفونها في الملاحة والمحاسبة وبناء القوارب والحرف اليدوية. ومع ارتفاع حجم التجارة وازدياد المعاملات تعقيدا، تزايد احتياج التجار إلى مستويات متطورة من المعرفة الرياضية. كانت أوسع تطبيقات النظريات الرياضية انتشارا في الحياة اليومية هي نظرية فيبوناتشي في الحساب، التي وضعها في كتابه المسمى «كتاب العد». كان يدرس في المدارس في كل أنحاء شمال إيطاليا، فكان يجهز الشباب بمهارات محاسبية، وأساسيات الجبر والهندسة الأولية. وحسب الكاتب جيوردانو كاردانو، بقيت أفكار فيبوناتشي الأكثر صعوبة، الجبر المعقد ونظرية العدد المتعلقة بمتتاليته الشهيرة، في حالة سبات لثلاثة قرون، إلى أن عثر باحث بيروجي شاب يدعى لوكا باتشولي (1447-1517) بالصدفة على نسخة من مخطوطة «كتاب العد» في مكتبة كنيسة سان أنطونيو دي كاستيلو، في فينيسيا. استوعب باتشولي هذه الأفكار وأدرجها في كتاب «ملخص الحساب»، الموجز الرياضي الوافي الضخم الذي جمعه، فوجه انتباه الأجيال التالية من الباحثين إلى تلك الأفكار.
كان باتشولي في المدينة يعمل مدرسا خصوصيا لعائلة فينيسية نبيلة، ويحضر محاضرات في «مدرسة ريالتو» في وقت فراغه. نحو عام 1470، غادر إلى روما، وأخيرا أصبح راهب فرانسيسكان، مكرسا نفسه لحياة قائمة على التنقل، ولكن يبدو أنه أمضى وقتا طويلا يدرس الرياضيات بقدر الوقت الذي أمضاه في الكرازة بكلمة الرب. كان بترارك وبوكاتشيو وغيرهما من الإنسانيين الأوائل قد شجعوا اللغة الإيطالية، وتابع باتشولي هذا، بالدعوة إلى الترجمة من اللاتينية إلى الإيطالية، وإلى أن تكتب الأعمال الجديدة بالعامية. آمن باتشولي بأنه ينبغي أن يحصل الجميع على الفرصة لتعلم الهندسة والحساب، وساند أيضا اتباع الأعداد الهندية العربية. ونتيجة لذلك، يحتل مكانة فريدة فيما يتعلق بانتشار الأفكار الرياضية أثناء عصر النهضة. كان باتشولي الباحث المتجول الأساسي، وجعله نمط حياته القائم على التنقل واحدا من أفضل الرجال ذوي العلاقات في عصره، ومرحبا به في كل بلاط نبيل وكل جامعة في شمال إيطاليا؛ فأقام مع المعماري ليون باتيستا ألبيرتي في روما، وزار نابولي، وفي فلورنسا عاش مع ليوناردو دافنشي لبعض الوقت، ويحمل اللقب المهم، وإن كان غير شائق، وهو لقب «أبو المحاسبة»، بفضل تفسيره الواضح لما كان يعرف باسم «طريقة فينيسيا» (تعرف الآن باسم مسك الدفاتر بنظام القيد المزدوج )، التي كانت تستخدمها أجيال من التجار. كانت اهتمامات باتشولي الرياضية واسعة اتساعا خاصا؛ فكتب في الحساب، وكان خبيرا في إقليدس وكان يلقي محاضرات بصفة منتظمة عن أطروحة «العناصر»، واضعا صيغا جديدة بكل من اللغتين اللاتينية والإيطالية، وجمع كل معرفته في عمله العظيم، «ملخص الحساب»، المكتوب بالإيطالية حتى يكون ميسرا على أكبر قدر ممكن من الناس، ونشر في فينيسيا، في عام 1494. يعد هذا الكتاب تجميعا بارعا لموضوعات عملية، مثل الأوزان والقياسات، مع المزيد من المجالات النظرية، مثل الجبر والهندسة، ولا يعد عملا مبتكرا، ولكن كان له تأثير هائل في القرن التالي بأن قدم للباحثين ملخصا مفيدا لنظريات إقليدس والخوارزمي وفيبوناتشي. شدد باتشولي على أهمية الدراسة والتطبيق العملي للرياضيات للمهنيين كالمساحين والنجارين والنقاشين والمعماريين، جامعا العناصر العملية والنظرية للرياضيات معا من أجل منفعة الجميع.
شكل 8-2: صورة إيضاحية مطبوعة بقالب خشبي لآلة من أوائل آلات الطباعة.
مؤخرا فقط أمكن نشر المعلومات على نطاق كذلك الذي كان باتشولي تصوره مع ظهور آلات الطباعة، التي جعلت الكتب في المتناول وميسورة التكلفة (نسبيا) لقطاع أكبر كثيرا من المجتمع. في منتصف ثلاثينيات القرن الخامس عشر، كان قاطع شاب للأحجار الكريمة في مدينة ستراسبورج، يدعى يوهان جوتنبرج (1400-1468)، قد صمم طريقة ثورية لإنتاج الكتب، تقنية من شأنها أن تغير مجرى التاريخ، مستخدما مهاراته في تشكيل المعادن، صب مئات من الحروف في سبيكة خاصة من القصدير والنحاس والأنتيمون، ورتب هذه الحروف على هيئة كلمات وفقرات داخل إطار، وكسى سطح الحروف بالحبر وثبت الإطار، ووجهه لأسفل، في مكبس خشبي كان قد صنعه، معتمدا على التصميم التقليدي لمكبس عصر التفاح. بعد إدخال ورقة وتمريرها في المكبس، جذب الذراع إلى الأسفل، فانطبع الحبر الموجود على الحروف في الورقة وشكل أول صحيفة نص مطبوع في العالم الغربي.
Page inconnue