Carte de la Connaissance
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
Genres
ظلت هذه الأفكار في ثنايا عقلي، آخذة في التبلور تدريجيا على شكل خطة لكتاب من شأنه أن يتتبع الأفكار العلمية القديمة في رحلتها عبر العصور الوسطى. ولأنه موضوع ضخم، قررت أن أركز على بضعة نصوص محددة وأرصد تقدمها وهي تمر عبر مراكز المعرفة الرئيسية. وبفضل تركيزي على تاريخ العلم، وبتحديد أكثر «العلوم الدقيقة»، تحددت بوضوح معالم ثلاثة موضوعات هي الرياضيات وعلم الفلك والطب.
5
وفي إطارها، برز ثلاثة عباقرة: في الرياضيات إقليدس، وفي الفلك بطليموس، وفي الطب جالينوس. كتب كل من إقليدس وبطليموس استعراضين شاملين لموضوعيهما، أطروحة «العناصر» وكتاب «المجسطي»، إلا أن جالينوس كان مسألة أكثر تعقيدا؛ إذ كتب مئات من النصوص؛ لذا قررت أن أركز على تلك التي شكلت المنهج التعليمي في الإسكندرية، بالإضافة إلى الدوائر العامة المتعلقة بالتشريح والصيدلة. حدد هؤلاء الرجال الثلاثة البارزون جميعهم هيكل الموضوعات الخاصة بهم ومحتواها، وصنعوا إطارا يمكن للعلماء المستقبليين أن يعملوا فيه لمئات السنين. ومنذ ذلك الحين رفض العديد من نظريات بطليموس وجالينوس واستعيض عنها بأخرى، ولكن لا جدال في تأثيرهما وإرثهما. فما زالت نظرية جالينوس عن الأخلاط باقية في الطب التبتي التقليدي وكذلك في الطب التكميلي الحديث. وظلت دراسة بطليموس عن النجوم الثابتة باقية ، وكذلك «فكرته القائلة إن العالم المادي موثوق ويمكن فهمه بواسطة الرياضيات.»
1
على النقيض، صمدت أطروحة «العناصر» لإقليدس أمام اختبار الزمن، بكاملها تقريبا؛ فكانت تدرس في قاعات الدرس في القرن العشرين، وبقيت النظريات الهندسية التي احتوت عليها صحيحة ومناسبة بالقدر نفسه الذي كانت عليه في القرن الرابع قبل الميلاد. وينطبق الأمر نفسه على طريقة إقليدس في البرهنة، التي تستخدم مصطلحات تقنية موجزة، وافتراضات وبراهين (رسوما بيانية)، ظلت نموذجا للكتابة العلمية منذ ذلك الحين. لقد اضطلع إقليدس وجالينوس وبطليموس بدور ريادي في ممارسة العلوم اعتمادا على الملاحظة والتجريب والدقة والصرامة الفكرية والتواصل الواضح؛ أحجار الزاوية لما يعرف باسم «الطريقة العلمية».
عندما بدأت البحث بجدية، فوجئت بقدر التنظيم الذي تكشفت به القصة أمامي. كان عام 500 نقطة انطلاق واضحة؛ إذ كانت فيه التقاليد الفكرية القديمة آخذة في التطور نحو التقاليد السائدة في العصور الوسطى، حينما كان البحث العلمي على وشك دخول حقبة جديدة. يتمحور كل فصل من الفصول التالية حول مدينة مختلفة، عائدين أدراجنا أولا إلى الإسكندرية لنرى الوقت الذي كتبت فيه النصوص والكيفية التي كتبت بها. من هنا، تناثرت تلك النصوص عبر شرق البحر المتوسط وصولا إلى سوريا والقسطنطينية، حيث بقيت هناك حتى القرن التاسع، عندما بدأ الباحثون من مدينة بغداد التي كانت حينها حديثة العهد، وكانت عاصمة الإمبراطورية الإسلامية الشاسعة، يسعون إلى الحصول عليها ليترجموها إلى العربية ويستخدمون الأفكار التي احتوتها أساسا لاكتشافاتهم العلمية. كانت بغداد أول مركز حقيقي للمعرفة منذ العصور القديمة، وبمرور الوقت ألهمت مدنا في أنحاء العالم العربي لكي تبني مكتبات وتمول العلم. كانت قرطبة، التي تقع في جنوب إسبانيا، هي أهم هذه المدن، وكان يحكمها الأمويون، الذين درست تحت رعايتهم أعمال إقليدس وبطليموس وجالينوس وفيها نوقشت أفكارهم وحسنت على يد أجيال من العلماء. ومن قرطبة، أخذت هذه النصوص إلى مدن أخرى في إسبانيا، وعندما بدأ المسيحيون في إعادة احتلال شبه الجزيرة الإيبيرية، أصبحت طليطلة مركزا مهما للترجمة والمكان الذي دخلت منه تلك النصوص إلى العالم اللاتيني المسيحي.
كان هذا هو الطريق الرئيسي الذي سلكته النصوص، ولكن كانت توجد أماكن أخرى في العصور الوسطى تلاقت فيها الثقافات الإغريقية والعربية والغربية. كانت ساليرنو، الواقعة في جنوب إيطاليا، مكانا تؤخذ فيه النصوص الطبية (باللغة العربية، وإن كانت مستمدة بالأساس من جالينوس) من شمال أفريقيا وتترجم إلى اللاتينية؛ ونتيجة لذلك، أصبحت ساليرنو، مركز الدراسات الطبية الأوروبية لقرون، لاعبة دورا حيويا في نشر الطب. وبعد ذلك، في باليرمو، تحول الاهتمام من جالينوس إلى بطليموس وإقليدس؛ إذ ترجم العلماء نسخا من «العناصر» و«المجسطي» مباشرة من الإغريقية إلى اللاتينية، متجاوزين النسخ العربية أملا في تحقيق دقة أكبر. اجتمعت المسارات الثلاثة المتفرقة في مدينة البندقية، حيث بدأت المخطوطات تصل في النصف الأخير من القرن الخامس عشر، لتصبح للمرة الأولى جاهزة للطباعة.
بالطبع كان بمقدوري إدراج مدن أخرى، ولكن الالتزام بتلك المدن التي درست وترجمت فيها نصوص بدا أفضل سبيل كي لا أضل الطريق في هذه القصة الهائلة. وقد طرح اختيارها بعض الأسئلة المثيرة للاهتمام حول الأشياء التي تشكل مركزا للمعرفة. كانت القسطنطينية مستودعا رئيسيا للنصوص القديمة، ولكن ذلك العلم لم يدرس في أي مكان بأي درجة من الأصالة أو الدقة. كما أنها لم تكن مكانا حدثت فيه ترجمة (ومن ثم نقل) على أي نطاق من أي نوع، وهي، لهذه الأسباب، تبرز فقط في دور مساعد، بوصفها المكان الذي كان يأتي إليه العلماء والخلفاء عند البحث عن نسخ لأعمال إقليدس وبطليموس وجالينوس. ربما أخذت المدينة الواقعة على القرن الذهبي مكان الإسكندرية من ناحية السلطة والمكانة، ولكنها كانت ظلا باهتا عندما تعلق الأمر بالمعرفة العلمية؛ فهي مركز للحفاظ على النصوص وليست مركزا للإبداع. كانت طليطلة وساليرنو وباليرمو الأماكن التي احتكت فيها الثقافة العربية بأوروبا المسيحية، ولكن أيضا كان ثمة درجة من التبادل في سوريا أثناء الحملات الصليبية. ومع ذلك، لم أناقش هذا بقدر كبير من التفصيل لأنه ليس ثمة دليل على أن أطروحة «العناصر»، أو كتاب «المجسطي» أو أعمال جالينوس الرئيسية كانت ضمن الكتب التي ترجمت هناك .
وبينما كان السرد الأساسي لهذه القصة يسهل اقتفاؤه، فإن إيجاد سبيل خلال تاريخ المخطوطات الكثيف المتشابك لم يكن كذلك. ولأن تلك النصوص كانت بالغة الأهمية، فقد أنتجت نسخ عديدة من كل نص؛ وعادة ما كان استنتاج صلة بعضها ببعض والتوصل إلى طريق واضح خلالها أمرا يمثل تحديا. وحتى ظهور آلة الطباعة، كان كل نص ينسخ باليد. لذا كان كل نص منها مختلفا عن الآخر، بخصائصه وأخطائه. إن دراسة التقاليد النصية المعقدة فرع من المعرفة مستقل بذاته تماما في التاريخ، وهو ليس فرعا يمكنني أن أزعم الخبرة فيه. وحتى أظل ملتزمة بالسرد، كان لزاما علي أن أكون انتقائية وأصنع صيغا مبسطة من سجلات المخطوطات الثرية لهذه الكتب العظيمة.
لطالما كان تاريخ الأفكار بالنسبة لي بمنزلة الجانب الأروع في ماضينا. فاكتشاف الطريقة التي تعاطى بها الناس مع الأسئلة الجوهرية حول كوكبنا والكون، وكيف نقلوا نظرياتهم إلى الأجيال اللاحقة ووسعوا نطاق المعارف الفكرية؛ لهو أمر مثير للغاية. إن قدرا كبيرا من هذا النوع من التاريخ محجوب في كتب زاخرة بالمعرفة على أرفف المكتبات البحثية، ولكن لا ينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو. وبإلقاء نظرة واسعة والكتابة عن الشخصيات والقصص، بدلا من التركيز على المحتوى العلمي والتفصيلات التاريخية الموجودة في الكتب الأكاديمية، من الممكن بث الحياة في تاريخ الأفكار. على سبيل المثال، لا يسع أحدهم فهم نموذج بطليموس للكون دونما معرفة مفصلة بعلم الفلك، إلا أن إدراك أهميته ومتابعة تطوره هو أمر هادف وجذاب. فالقيام بذلك يأخذنا في رحلة نجوب خلالها العصور الوسطى، مع التركيز على أماكن معينة في أوقات معينة كي نكتشف بالضبط كيف ولماذا جرى نقل وتحويل هذه الأفكار العلمية. بهذه الطريقة، تتسع حدود السرد التاريخي التقليدي الغربي عن طريق تسليط ضوء على الإسهام الكبير لكل من العالم الإسلامي وعلماء العصور الوسطى المسيحيين؛ لتكمل المعلومات الناقصة عن الألف السنة الواقعة بين «الرومان» و«عصر النهضة». وجعل هذا من الممكن إدراج نظريات من ثقافات أخرى وقد انصهرت تلك النظريات تدريجيا في الفكر الرياضي والفلكي والطبي بحيث أضحت جزءا منه. أفكار مثل فكرة الأعداد الهندية-العربية وفكرة الترميز الموضعي اللتين وصلتا إلينا من الهند، عبر الإمبراطورية الإسلامية، تستخدمان في كل أنحاء العالم في وقتنا الحالي.
Page inconnue