Carte de la Connaissance
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
Genres
جنوبي بغداد على نهر الفرات؛ ليدرس الطب مع الطبيب الجنديسابوري المتعجرف يوحنا بن ماسويه. أخيرا وافق يوحنا على تعليم حنين، بغض النظر عن نظرة الازدراء التي كان ينظرها إليه باعتباره حيريا؛ لأنه كان من المعتاد أن يكون الحيريون إما صيارفة أو تجارا. بيد أن عقل حنين الذي كان لا يكف عن التساؤل وأسئلته التي لا تنتهي قادت يوحنا إلى الجنون، وألقاه خارجا. لم تثبط هذه الانتكاسة عزيمة حنين. فغادر بغداد و«سافر عبر البلاد ليجمع كتبا قديمة، حتى إنه ذهب إلى الدولة البيزنطية»،
16
وتعلم اللغة اليونانية خلال أسفاره. عندما عاد حنين إلى بغداد بعد سنوات عديدة، كان في مقدوره أن «يتلو أشعار هوميروس عن ظهر قلب» وكان قد جمع مجموعة رائعة من الكتب وشرع في العمل على ترجمتها إلى العربية، غالبا عبر السريانية.
17
وسرعان ما حظي بسمعة متميزة، متلقيا تكليفات من كثير من الرعاة البغداديين. وظفه المأمون للعمل طبيبا وكذلك مترجما. ترأس حنين فريقا ضم في النهاية ابنه وأبناء أخيه، محدثا ثورة في عملية الترجمة، ومستعينا بمعرفته الوثيقة باللغات السريانية واليونانية والعربية بهدف إعطاء المعنى الفعلي لكل جملة، بدلا من مجرد الترجمة الحرفية. احتاج المترجمون إلى مستويات أعلى من المعرفة المتخصصة ليحققوا هذا؛ فلم تعد الخبرة اللغوية كافية وحدها. ووضع حنين معايير صارمة عن طريق العمل بشكل وثيق مع مترجمين آخرين، حتى يدقق كل مخطوط وينقح عدة مرات. طور حنين وفريقه مفردات تقنية كاملة للتعبير عن الأفكار العلمية المعقدة باللغة العربية، مع مراجعة وتحسين النصوص التي ترجموها ووضع نموذج مثالي للترجمة.
كان ابتكار حنين الآخر هو جمع أكبر عدد يمكنه جمعه من نسخ كتاب ما (عادة ما كانت بلغات مختلفة) والمقارنة بينها جميعها لإنتاج الإصدار الأكثر حجية. وحسبما أوضح هو نفسه، فيما يتعلق بعمل جالينوس المسمى «أطروحة عن الطوائف»، بقوله: «ترجمتها لطبيب من جنديسابور [جنديشابور] ... من مخطوط يوناني معيب للغاية ... في هذه الأثناء كان قد تجمع في حوزتي عدد من المخطوطات اليونانية. فقارنت بين هذه المخطوطات وصنعت بهذه الطريقة نسخة واحدة صحيحة. بعد ذلك مباشرة قارنت النص السرياني بها وصححتها. إنني معتاد على فعل ذلك في كل شيء أترجمه. بعد بضع سنوات ترجمت النص السرياني إلى العربية لأبي جعفر محمد بن موسى [الخوارزمي].»
18
ليس من قبيل المبالغة في شيء بيان أهمية طرق الترجمة التي ابتكرها حنين والنصوص التي صنعها. فقد مكنت الباحثين من اكتساب فهم للأفكار القديمة بحيث أمكنهم تنظيمها وتقييمها والتشكيك فيها وتصحيحها، ومن ثم استخدامها أساسا لاكتشافاتهم. أصبحت ترجمات حنين بمثابة النسخ القياسية لكثير من النصوص اليونانية، التي انتقلت من جيل إلى جيل وترجمت بعد ذلك، في قرون تالية، إلى اللاتينية . ترجم حنين 129 عملا لجالينوس، وكثير منها كان هو من بحث عنه وعثر عليه بنفسه. عن أحد هذه الأعمال، وهو كتاب «الإثبات»، كتب يقول : «سعيت إليه سعيا حثيثا وسافرت بحثا عنه في بلاد الرافدين وسوريا وفلسطين ومصر، حتى وصلت إلى الإسكندرية، ولكنني لم أتمكن من العثور على أي شيء، عدا ما يقارب نصفه في دمشق.»
19
كان أكثر ما اشتهر به حنين الترجمة، لكنه كان أيضا واحدا من أطباء بلاط المأمون وألف بنفسه عديدا من الكتب، ومنها كتاب «العشر مقالات في العين»، «أول مرجع منهجي في طب العيون»،
Page inconnue