لما جاءت جهان تقابل الجنرال فون والنستين خف إلى باب البهو مرحبا مؤهلا، وقبل يدها باشا مسرورا، ثم تقدم وإياها إلى الديوان في صدر القاعة، وأجلسها إلى يمينه قائلا: وجئت أخيرا ترينني.
هكذا افتتح الجنرال الحديث، وفي صوته رنة التأنق والملاطفة. - نعم ولا أعلم أن لذلك داعيا ما، إلا أن ...
فقاطعها قائلا: لا داعي لزيارتك؟ أيجيء ذلك الأحمق شكري بك إلى منزلي طالبا حياتي، وقد عطل أثاث البيت كما ترين - انظري هنالك - وأنت لا تكلفي نفسك السؤال عني، ولم تخطي لي سطرين، حتى ولم تخاطبيني بالتليفون مستطمنة؟ لم يخطر في بالي قط أن سيدة عثمانية تكون سريعة النسيان إلى هذا الحد، بل قصيرة الحبل في الوداد، وطالما ظننتني ذا حق في معاتبتك.
فأجابت جهان وقد تحدته بأسلوب حديثة: أراك تسابقني إلى الشكوى التي أتأمل أن تكون بها مخلصا على أنه مهما كانت الأحوال فقد كان بإمكانك أن تحول من أجلي في الأقل دون اعتقال والدي ولقد كان باستطاعتك العفو من أجلي عن شكري بك، وأن تبر بما وعدتني بشأنه، فترجئ إنفاذ الأمر العسكري الصادر إليه.
فأجاب الجنرال وقد ألبس لهجة تهديده ابتسامة صفراء: لم تقدمي إذن لتهنئتي بنجاتي من رصاصة المغتال. - لم يكن شكري بك مالكا رشده، وأنت المسئول عما استولى عليه من اليأس والجنون. - أنا؟
وردد الضمير مقطبا جفنه عابسا، ثم قال: إن الواقع عكس ما تتهميني به، فقد أباح لي هاذيا أنك أنت سبب تعاسته. وقد قال إنك وعدته أن تتزوجي مني فحنثت بالوعد، ويخال أنك كنت تعاملينه معاملة سيئة، غامضة الأسباب، فقد أردت ذات مساء أن تقبليه ثم ما لبثت أن طردته من منزلك؛ ولهذا زين له هذيانه أن يلعن المرأة التركية ... مقبحا التهذيب الحديث والحرية والحريم، ولقد سببت لهذا المسكين ألما جاء ينتقم مني عليه لما فيه من بلادة وعماوة.
فقالت جهان وقد رفعت بصرها إليه مسترحمة: ولكنك شهم كريم الأخلاق، فاعف عنه وسامحه، ولكي أريح أفكارك وأطمئن بالك أعترف لك أنني لا أنوي الاقتران به، ولا أستطيع ذلك، لا اليوم ولا غدا، قد أساء فهمي، فضلا عن أن ليس له أن يكون أمينا على الميثاق الذي أتطلبه في الزواج لا هو ولا سواه من أبناء عنصري في هذا الجيل يستطيع ذلك، وقد تيقنت هذا تمام اليقين، فسامح شكري بك، اعف عنه، أغثه. - لم أخالف لك أمرا قبل اليوم. - ولا ترد طلبي الآن. - لست أنا المدعي على شكري بك، فهو لم يسئ إلي خاصة، بل إلى المصلحة الألمانية التي أقمت أمينا على جزء صغير منها، وكلمتي في هذا الشأن لا تتجاوز حدود وظيفتي. - إن كلمتك في الأستانة شرع يطاع. - نحن اليوم في زمن حرب أيتها الحسناء، أيتها العزيزة جهان، وأعداؤنا لا يرحمون ولا يشفقون. - أنتم الظافرون، والرحمة أولى بالظافر.
وبعد أن توقفت عن الحديث قليلا وهي تشعر أنها قد قامت بواجبها نحو شكري بك، وأن الجنرال سيلبي طلبها، ويعفو عنه، عادت تسأل عن أبيها: وأبي، لماذا اعتقل ما ذنبه؟ - أواه، أبوك، الآن تسأليني عن أبيك؟
قال هذا وفي صوته نبرات التثريب، وقد قصد أن يفهمها أنه كان متعجبا من عدم حضورها لمقابلته قبل ذلك الوقت، ثم عاد إلى الكلام فقال: إن ذنبه أفظع من ذنب ابن عمك، فقد بلغني أن أباك خان الوطن، وخان الدول الوسطى.
فصاحت جهان قائلة: خيانة! إن هذا لمن المستحيل. - إنه يراسل الأمير صباح الدين ولطيف باشا في باريس، وهما من ألد أعداء الحكومة الحاضرة، ومن أصدقاء الحلفاء، ولقد ضبط له كتاب يوقع فيه ولي العهد القائل: إنه يحاول قلب الحكومة، وإن أباك موقن أن تركيا مستعدة للمفاوضة على حدة بشأن الصلح، وهناك بين أوراقه المضبوطة حجج أخرى تثبت خيانته.
Page inconnue