قالت هذا ومالت عنه حياء إلى دكتور عثماني، فإنها لم تكن صريحة حرة إلا بقلمها تكتب بما تشعر، وما تعتقد بدون محاباة أو مداراة، ولكنها في حديثها كانت شرقية تجمجم الكلام وتوريه، وبالأخص مع الأجانب، وقد كانت تعجب بالألمانيين، ولكنها لم تجد من نفسها دافعا يدفعها إلى استحسان عادات فيهم همجية، وصراحة في أقوالهم رأسها الخشونة والتفوق، أما الطبيب العثماني فقال لها: أمامك هذا الصباح عمليتان جراحيتان: في الأولى قد يموت العليل تحت المباضع، والأحسن أن لا تكوني حاضرة، ولقد ألحت عليهم أن يترك ذلك العليل وشأنه، أو يسرع بالمخدرات لإراحته من آلامه، ولكن ذلك الألماني الأبله أبى إلا أن يزيد في عذابه، ويسرع بموته في عملية جراحية، إن الألمان يدعون معرفة كل شيء، أما والله إن ادعاءهم وغطرستهم لمما يضيق عنه احتمال المرء، يأتينا تلميذ ما كاد ينهي دروسه في الكلية فتزين له الوقاحة أن يملي على جراح معدود من جراحينا، ولكن ما هذا الذي أسمعه عنك، وعن ذلك الغطريس الألماني؟! قولي إن الخبر كاذب فأهنئك، فإني والله لأستقبح قرانا مثل هذا، ولا أصدق أن ابنة من أجمل بناتنا وأشرفهن وأذكاهن وأكرمهن محتدا تضحى على مذبح السياسة الألمانية، سامح الله أباك، فقد كنت أعتقد ... - ولكن أبي من رأيك. - وأنت؟ - عفوا يا دكتور، فإني لم آت هذا المكان لأتحدث بأموري الخصوصية.
ثم تحولت عنه قائلة: إن هذا الطبيب شر من وصيفه الألماني، وقد لامت نفسها لمقاطعتها للطبيب الألماني فجأة دون أن تحسن ملاطفته، فلئن يكن كلامه خشنا احمرت وجنتاها منه حياء وخجلا، فقد فرحت بمقدمات البشائر.
وجاءت رئيسة الممرضات إلى غرفة جهان إذ كانت تضع قبعتها على رأسها، وتتلثم للخروج، فقالت لها ووجهها طافح بالسرور: عزيزتي جهان، إنه لعمل يعد لك تاج مآثرك، فقد اقتبست عاداتنا، وتخلقت بأخلاقنا، وتهذبت بتهذيبنا وآدابنا، والآن ستعتنقين ديانتنا المسيحية، فأكرم به عملا يكسبك السعادتين: سعادة هذه الدنيا، وسعادة الآخرة، فأنا لا أشك أن سوف تعتنقين مذهب الجنرال إذا اقترنت به، فاسمحي لي أن أهنئك يا عزيزتي جهان. - ولكن ما قولك إذا اكتمل الحظ فاعتنق الجنرال مذهبي؟
ورفعت حاجبها وهي تبتسم ابتسامة تهكم واستعجاب، فغصت الرئيسة بريقها وأجابت: هذا مستحيل. - لا مستحيل في الحب والسياسة، ولكن ما ألطفك سيدتي، وما أكرمك تبشرينني بسعادة مزدوجة لا أظنني أهلا لها.
وتأملت جهان بمجاملة الرئيسة قائلة في نفسها: يا لها من امرأة سليمة الطوية، تسر بساطتها القلب وتفرحه، ولكن ما الذي دعا الجنرال فون والنستين أن يشيع الخبر بالرغم من عادته بالتحفظ والتكتم؟ فلا مراء أنه مصدر هذه الإشاعات! وقد كتبت إليه جهان في عصاري ذلك النهار تظهر استياءها من ذلك، وتعترض على شيوع الخبر، أما جوابها على اقتراح رئيسة الممرضات في أنها ستعتنق الدين المسيحي فكان صريحا جليا في مقالة أنجزتها مساء ذلك اليوم موضوعها: «الإسلام والحرية».
الفصل التاسع
كثيرا ما ألفت وزير الداخلية ومحافظ الأستانة نظر الجنرال فون والنستين إلى أن رضا باشا عدو المحالفة العثمانية الألمانية، وأنه يفاوض سرا أصدقاءه الرجعيين في باريس، حتى إن جواسيس الجنرال قد استدلوا على شيء مما وجه إليه نظره، وجاءوه بحجج دامغة على مقاومة رضا باشا المحالفة المذكورة، ومما قال أحد أخصام الباشا اللدودين وهو أحد أعضاء جمعية الاتحاد والترقي: إن رضا باشا خائن، وزاد عليه آخر فقال: ويجب أن يقبض عليه، ويقصى في منفى.
أما محافظ العاصمة، فلم يرض له بغير المشنقة، إلا أن الجنرال فون والنستين كان يتردد كما ألمحنا سابقا في اتخاذ مثل هذه الوسائط، ولم يسلك قط مسلك الشدة في هذا الأمر، بل جل ما حدث بينه وبين الباشا هو قطع العلائق التي كانت حتى صباح زيارته وثيقة العرى، وهذا ما قد يحمله على تغيير خطته، فإن ذلك الحادث الأليم في غاليبولي لم يكن عذرا وافيا لسلوك الباشا مسلكه بالأمس، وما أظهره فيه من قباحة الكلام وسوء العتاب، مخالفا بذلك ما تعوده الترك من لطف التمويه والمداجاة، ناهيك به من جندي معروف يدرك قوانين الحرب، وكان حريا به اعتبارها وعدم الاعتراض عليها، حتى ولو غير رأيه فيه، فقد برئت ساحة الضابط الألماني؛ لأن ابن رضا باشا نال نصيبه بالإعدام استحقاقا، ونال أيضا الصليب الحديدي مكافأة، فإن اسمه قد ذكر بين الذين أظهروا بسالة وإقداما في ساحة الحرب منذ أسابيع قليلة قبل ذلك الحادث؛ ولهذا أسرع الجنرال فون والنستين في استحصال مدالية ملوكية مكافأة له، إلا أن ذلك البطل كان قد تمرد ولم يصدع بالأوامر العسكرية، فعوقب للحال بموجب القانون الحربي، كذلك جالت أفكار الجنرال في الحادثة، فمجيد بك قد عومل بالطريقة الرومانية القديمة القاسية، أكرم لبسالته، وأعدم لعصيانه، وقد خطر ببال الجنرال أن يقول في نفسه: من العجب أن الباشا لم يتجل له هذا النور! ولقد كان يود أن يوضح هذا التوضيح للباشا لو لم ير في ذلك غضاضة، فلم يشأ أن يتنازل لإيضاح الأمر أثناء زيارته كما تجلى له؛ لأنه لم ير من سلوك الباشا معه ما يؤهله إلى مثل هذا التعطف والتنازل.
وللقارئ أن يصدق الجنرال أو يكذبه، وله الحق أن يظن بأن الجنرال نفسه لم يتجل له الأمر في ذلك الصباح على هذه الصورة التي رسمت في دماغه، فلو أنه قابل جهان، وآنس منها ما يسره لأنكر بلا مراء عمل الضابط وقبحه.
ونرى من وجهة ثانية أن أعاظم الأتراك ممن هم أعلى مقاما من أبيها حتى والسلطان نفسه كانوا يقابلون الجنرال فون والنستين بتمام الاعتبار والإجلال اللذين يليقان بمقامه؛ ولهذا كان على رضا باشا أن يحتشم في حضرته الرفيعة؛ لأنه كان ضيفه، فبدلا من أن يقوم بهذا أمامه قابله بعتو وقحة، حتى إنه تمادى في غيظه، فأهان جلالة الإمبراطور، رافضا إنعامه الملوكي، وبهذا العمل جرم كاف يستحق أشد العقاب، إلا أن الجنرال فون والنستين لا يقيم لنفسه قاضيا في هذه القضية، لا ولن يرضى أن يرافع غريمه، فهو لا يتنازل لمثل المرافعة، ولكنه يعمد إلى الإيقاع والأمر بسيط، لماذا يقدم على عمل يشوه سمعته واسمه لدى الشعب العثماني حين أنه يستطيع تنفيذ إرادته بإغراء الكثيرين على الباشا، ولهذا ارتأى أن يعي بأذن مصغية كل ما يبلغه من أعداء الباشا، وأن يطلق لكلابه العنان، فيضعه تحت رحمتهم، ويجرب فيه قدرته، ثم يعفو عنه عفو الكرام.
Page inconnue