30
وانصرم شهر نوفمبر، فاشتد البرد اشتدادا لم تعهده القاهرة إلا في النادر، وأصيب رشدي عاكف بالإنفلونزا، ولعلها أصابته أثناء عودته إلى خان الخليلي في الهزيع الأخير من الليل، ولم يكن يعبأ بوعكات البرد مكتفيا ببلع أقراص الأسبرين إذا اشتد عليه وجع الرأس، فزاول نشاطه المعهود لا يعبأ شيئا، إلا أن حالة المرض اشتدت عليه في اليوم الثاني في المصرف، فتناوبته قشعريرة، ثم شملته رعشة حتى اصطكت أسنانه، وعراه خور أظلمت منه عيناه فغادر المصرف واستقل تاكسي إلى البيت، ورقد في إعياء شديد، ومنحه طبيب المصرف أسبوعا، واشتدت الحالة، وتدهورت صحته بسرعة مخيفة، وغيره هزال فبدا كإنسان لازمه المرض شهرا طويلا، وأدرك أحمد أن أخاه فقد مناعته الأولى التي طالما قاوم بها التوعكات فلم يملك أن قال له: صرت كالخيال، لأن جسمك لم يعد يقاوم لما تكلفه به مما ليس في وسعه.
وكان الفتى معتادا أمثال هذه الملاحظة من أخيه، فابتسم ابتسامة شاحبة وقال: هذا عارض من أعراض البرد وسوف يزول!
فقال أحمد باستياء: ولكنه ما كان يتمكن منك لولا تفريطك في صحتك!
ولم يكن شيء يعدل به عن الدفاع عن سيرته المحبوبة فقال: ألا ترى أني لا أسهر وحدي! وأن صحبي جميعا كالبغال صحة وعافية! ولكنها أعراض البرد وسوف تزول بإذن الله.
وكان يعلم أنه يستميت في الدفاع عن حياته لحد اللجاج والمكابرة فانكسر عن لومه، وكان يعوده كثيرا، ويواسيه ويشجعه، وبالغ في ذلك مبالغة مردها إلى ما بات يساوره نحوه من امتعاض ونفور، فكأنه كان يغطي المشاعر التي تخجله وتحزنه بالمبالغة في إظهار العطف والمحافظة على مظاهر الحب، وكثيرا ما كان يحدث نفسه بصوت مسموع قائلا: «إني أحبه كعهدي دائما، وما يستحق مني غير هذا الحب، ولو أنه علم بطويتي ما أقدم على ما أقدم عليه، فهو بريء، وهو يحبني وأنا أحبه.» ولكن كيف يغفل عما يثور بنفسه أحيانا من الغضب والثورة؟ .. وكيف ينسى أنه تمنى لو أن الشاب لم ينقل إلى القاهرة؟ .. بل كيف ينسى أنه تمنى لحظة لو تخلو الدنيا من الناس والشاب فيها طبعا؟! فهذه الخواطر وغيرها كانت ترهقه بالحزن وترديه في الوساوس، وفي آخر ليلة من ليالي اشتداد الحمى على الشاب، حلم أحمد حلما غريبا، وكان نام بعد جهد ناصب من عذاب الفكر، فرأى فيما يرى النائم أنه جالس على فراشه مرسلا الطرف من نافذته إلى شرفة نوال في إشفاق ورجاء، فما يدري إلا ورشدي يقعد على كرسي بينه وبين النافذة مبتسما ابتسامته اللطيفة، فشعر باستحياء وحول ناظريه عن الشرفة إلى وجه أخيه، وأراد رشدي أن يسري عنه بتظاهره بأنه لم يفطن لشيء فلم يفلح، ثم رآه ينتفخ رويدا رويدا حتى صار ككرة ضخمة فأنسته الدهشة ما كان فيه من استحياء، ثم أخذ منه العجب كل مأخذ حتى لم يتمالك نفسه من الصراخ إذ رأى شقيقه - وهو كالكرة الضخمة - يرتفع ببطء طائرا كأنما يلتمس سبيلا إلى الفضاء خلل النافذة، ولكن النافذة ضاقت عنه فانحشر بين جانبيها وحجب عن عينيه النور، وزايلته الدهشة وحل محلها الرعب، ولكن الفتى جعل يضحك منه كالساخر بصوت مزعج أثار أعصابه فتولاه الغضب، وظن الشاب يسخر منه بخدعة فنهره ولكنه لم يعبأ به واستمر في ضحكه الساخر، ففزع أحمد إلى مكتبه وأتى بريشته وغرسها في بطنه فانقصفت فيها، واندفع من البطن بخار ملأ الحجرة بالغبار فأخذ جسم الفتى يتقلص بسرعة حتى عاد إلى حجمه الطبيعي ثم سقط عند قدميه، وجعل يتلوى كالسليم، ويعض من الألم قوائم الكرسي ويصرخ صراخا موجعا ويسعل حتى تجحظ عيناه ويسيل من محجريهما الدم، وهلع فؤاد أحمد وأطبق عليه رعب يضني ويميت، ثم ... ثم استيقظ عند ذاك، وأدرك أنه كان يحلم، رباه، تبا للأحلام، وما كاد يفيق من هول الرؤيا حتى بلغ مسمعيه صوت كالأنين يأتيه من عقب بابه المغلق، فأرهف السمع فتبين له أنه صوت أخيه وأنه حقا يتأوه ويتوجع، فقفز من فراشه وانتعل شبشبه ومضى على عجل إلى حجرته، وهناك وجد الشاب راقدا يتأوه وأمه إلى جانبه تدلك ظهره بينما يجلس الأب على كرسي قريبا من الفراش، فتساءل أحمد مروعا: ماذا به؟
فقالت أمه: لا تنزعج يا بني، إنه ألم الحمى وهي تفارق البدن.
وتنبه رشدي إلى مجيء أحمد فكظم ألمه قليلا وقال متأسفا: واخجلتاه، أزعجت منامكم جميعا.
ولكنهم شجعوه ودعوا له، وجلس أحمد جنب أمه، وأخذ راحة شقيقه بين راحتيه وراح يدلكها بحنو، وكأنه يكفر بذلك عن إساءته إليه في الحلم، ومضت ساعة مؤلمة لم يكن عناء الأسرة فيها دون عناء المريض، فلبثوا إلى جانب فراشه حتى مطلع الفجر.
31
Page inconnue