ولما خلا إلى نفسه في حجرته تناسى حديث نونو وظرفه. ولاحت لعينيه صورة أحمد راشد بكآبتها وحماسها وعنف حركاتها، فاستثارت حنقه وغروره ومقته، وتساءل محزونا كيف غابت عنه دنيا المعرفة الحديثة؟! وكيف يستكمل ما فاته منها؟! ومتى يحاضر في فرويد وماركس كما يستطيع أن يحاضر في إخوان الصفا وابن ميمون؟! وفكر في هذه الأمور طويلا فلم يستطع أن يصفو للمطالعة ولا أن يركز ذهنه فيها، ولكنه ظل عاكفا على كتابه لا يحول عنه رأسه لأن عكوفه على الكتاب - ولو في حال شروده - يقنعه بأن يومه لم يمض بغير ثقافة يتزود منها، الأمر الذي يحرص عليه كل الحرص، وانسل الوقت وما تزال كبرياؤه تتجرع غصص العذاب، ثم خطرت على قلبه فكرة، هفت على قلبه كنسمة رطيبة لطيفة فأثلجت صدره الفائر بالحنق والغضب، فصفا وطاب، وابتسمت أساريره. كم كانت تكون الحياة سعيدة محبوبة لو أن ما يلقاه من حظ ونصيب، ومصادفات واتفاقات، وأناس وأخلاق، كان في مثل هاتين العينين النجلاوين يقطران سذاجة وخفة؟! ثم ذكر - فيما يشبه الدهشة - أن شهر رمضان ذو صلة قديمة بقلبه، ففي شهر رمضان خفق قلبه خفقة الحب الأولى، وهي - كرؤية نور الدنيا لأول مرة - إحساس عجيب لا يتأتى الشعور بجدته مرة أخرى، وفيه رأى الفتاة التي رغب صادقا أن يشاطرها حياته وأخفق، وها هو ذا رمضان من جديد، وها هو ذا قلبه ينفض عن صفحته الضباب البارد القاتم ليستقبل شعاعا دافئا منعشا، وكان عقله من العقول التي ترى دائما وراء المصادفات حكمة تدق على الألباب، فإذا رأى غيره من المصادفة مجرد حادثة لا معنى لها، التمس هو فيها حكمة خفية، لذلك نظر أمامه حالما وقد غاب بصره، وارتفع حاجباه الخفيفان المتباعدان، وفغر فاه، وغمغم في حيرة وسرور «ماذا وراءك يا رمضان»؟!
12
وعند أصيل اليوم الثاني نهض نشيطا إلى المرأة ليحلق ذقنه، وكان يحلقها عادة مرتين في الأسبوع ، ولا يبالي أن يبدو للناس وذقنه نابتة، فعزم على الإقلاع عن عادته هذه، وأن يحلق ذقنه يوما بعد يوم من الآن فصاعدا.
ولما فرغ ارتدى جلبابا نظيفا وطاقية ناصعة البياض - مجبرا ليخفي صلعته - ثم جلس على حافة الفراش يرمق النافذة بعينين مترددتين، ليست المسألة مجرد حلق ذقن أو لبس طاقية بيضاء، إنما ينبغي أن يسأل نفسه عن معنى هذه اللهفة ومغزى هذا التغير، هل ينطلق بغير تفكير أو ترو؟ ماذا يريد على وجه التحقيق؟ فعسى ما يكون اليوم لعبا يكون غدا جدا، وما ينبغي له أن ينسى حظه العاثر وتاريخه المحزن، أفلا يحسن به أن يترك النافذة مغلقة، وأن يتفادى ما ينذر به فتحها؟ على أن الحياة لا تنصت لمثل هذا المنطق، ولا تكاد تتأثر بحكمته ومخاوفه، فقد أحرقه الظمأ وألهبته اللهفة، ونهض مرة أخرى يلوح في وجهه العزم ودلف من النافذة ثم فتحها، وارتفق حافتها وعيناه إلى أسفل، ثم مضى يرفعهما ببطء وحذر حتى بلغتا أرض الشرفة، فرأى قوائم الكرسي وحاشية الشمال - الذي كانت تطرزه مساء الأمس - مدلاة بينها، ثم غلبه خجله فأطرق كالأطفال! ولبث مطرقا وهو يشعر بعينيها تثقبان رأسه، وخاف أن تذهب الفرصة قبل أن يتملى برؤيتها، فرفع رأسه متغلبا على حيائه، فرأى الكرسي خاليا والشال موضوعا عليه! ترى أكانت موجودة حين فتح النافذة ودعاها إلى الذهاب داع؟ أم غابت قبل ذلك؟ ومهما يكن من أمر فقد أحس امتعاضا وفتر حماسه، وخاف أكثر من قبل أن يغيب اليوم دون أن يراها، ولم تكن احتمالات رؤيتها في الغد لتنسيه خسارة اليوم، فقد تهيأ بكل عناية لتراه في أحسن صورة ممكنة، ولن تكون ذقنه ولا طاقيته ولا جلبابه غدا كما هي اليوم، وإذن فهذا رجاء خاب، وذاك تعب ضاع، وأطرق مرة أخرى كاليائس: إلا أنه سمع - في اللحظات الأخيرة قبل المدفع - حركة خفيفة في الشرفة، فرفع رأسه بسرعة فرأى الفتاة مقبلة، ثم رآها تنحني على الكرسي لتأخذ الشال فالتقت عيناهما لحظة، ثم استوت قائمة فولته ظهرها وجرت إلى الداخل ، وما طمع في أكثر من ذلك، ولو أنها أدامت النظر إليه لأربكته وأوقعته في الحيرة والحياء، أما وقد خطفت بصرها بمثل السرعة التي خطفت بها روحه، فقد أولته الجميل دون عناء أو مشقة، ثم صارت بعد ذلك ساعة الغروب تلك معقد الرجاء وبسمة المنى، هي خلاصة اليوم وهدفه ومعناه، حسبه أن يملأ فيها عينيه من معاني السذاجة والخفة تسكبها عيناها النجلاوان، وأن يدخر منها لبقية يومه ما يشيع فيها السرور والأحلام، وتواترت أصيلا بعد أصيل، والتقت العينان يوما بعد يوم، فألف منظرها المحبوب ولعلها ألفت منظره، بيد أنه لبث على خجله وارتباكه، يطالعها - إذا جاءت اللحظة السعيدة - بنظرة تفيض بإحساس الجد والرزانة والوجل كأنما يتحفز صاحبها للفرار! ووضحت صورتها في مخيلته بعينيها النجلاوين ذواتي الصفاء والسذاجة والخفة، عينان تنطلق نظراتهما بالتساؤل والاستسلام، إلا أن خفتها تضفي عليها غلالة من الفطنة والحرارة.
وكان ذات مساء يغادر حجرته - بعد العشاء - إلى المقهى فدق جرس الباب الخارجي وهو يقترب منه، ففتح الباب بنفسه، فرأي أمامه الست توحيدة وكريمتها نوال! وجعل ينظر إليهما بدهشة وارتباك وقد خفق صدره بما بغته من سرور، ثم انتبه إلى نفسه فتنحى عن سبيلهما قائلا متلعثما: تفضلا.
ودعا أمه لتلقى الزائرتين، وذهب لا يلوي على شيء، وأدركت أم نوال ارتباكه، ولم تكن تتصور أن رجلا في سنه يرتبك ارتباكه، ويبدو عليه ما بدا من الحياء لمحض أنه قابل امرأتين، وهبط أحمد السلم نشوان لأنه يذكر جيدا - كما أكد لشكوكه التي لا تنتهي - أن فتاته ابتسمت إليه وهو يستقبلهما ابتسامة خفيفة براقة، لعلها ابتسمت ابتسامة الضيف لمن يستقبله، أو ابتسامة الارتباك والحياء، أو لعلها جادت بالابتسامة للرجل، جزاء حرصه ومثابرته على التطلع إليها بعينيه كل غروب أسبوعا كاملا أو يزيد، فمهما كان الباعث فهي ابتسامة حلوة، تلهف قلبه على مثلها عشرين عاما، ورغب عن الذهاب توا للمقهى ليتيح لنفسه فرصة للتأمل، وكان من الذين يستحبون المشي إذا شغلهم شاغل من الفكر، فحث خطاه إلى السكة الجديدة، وسار معها مبتهجا مسرورا ، وتمتع ما شاء بالسرور في صفاء ورضا، وما كان غرا ولا حسن الحظ بالدنيا - وكيف يكون ذلك بعد ما لاقى من سوء الحظ وعثاره؟! - ولكنه أراد السرور ساعة ولو خدع نفسه وغالط رأيه، وأراد أيضا أن يسير حظه بعين جديدة ليرى أين هو من أمانيه المكبوتة، وليرى إن كان في الإمكان أن يعاود التجربة من جديد، فقد بدا له أنه أصبح حرا بعد أن أدى واجبه كاملا، ألم يتلق عن والده العبء عند اندحاره؟ ألم ينهض بأسرته المهددة بالشقاء؟ ألم يكفل أخاه حتى صار رجلا؟ فما عليه من حرج بعد ذلك إذا شغل بسعادته مخلفا أعباءه لشقيقه الأصغر، ولا يكره ذلك أحد من ذويه، فهل في العمر متسع؟! وتمادى في التأمل والتخيل يحثه شعور السرور والظفر الذي غمره منذ حين، فقال إنه يملك في صندوق توفير البريد مبلغا لا بأس به في ذاته، وإن عد تافها إذا قيس إلى مدة خدمته الطويلة، وأما عن شكله فليس مما يعيب الرجل ألا يكون جميلا! وإنه ليستطيع بالعناية - كما فعل اليوم - أن يبدو معقولا على نحول وجهه وشحوبه وصلعته، ويا حبذا لو فصل بدلة جديدة، وابتاع طربوشا غير طربوشه الباهت المتقبض، بيد أنه كهل! فهو في الأربعين والصبية دون العشرين! وفارق العمر حاجز لا تقتحمه إلا المعجزات، فمن أين له بالمعجزة؟! وانقبض صدره لأول مرة منذ فتح باب الشقة للزائرتين، وذكر شكه في جاذبيته الجنسية، فتجهم وجهه وأفاق من نشوة السرور، وتمثلت لعينيه - في ظلمة الطريق - صورة الفتاة الباسمة، فغمغم قائلا: «يا لها من غرة جاهلة!» إلا أن شيئا واحدا لم يخطر له ببال، وهو أن يتطوع بمد يده إلى الحياة التي دبت في قلبه فيخنقها لواذا بطمأنينة الموت، فليتركها تنبض وتترعرع ولينتظر المخبأ وراء حجاب الغيب، وهو لن يكون بحال أسوأ مما عركته به الأيام، وخطر له وهو راجع أن يتساءل هل الحب شيء غير ما يعاني؟ .. هل هو شيء غير هذا الشوق الغامض النابع من الحنايا؟ .. هل هو شيء غير هذا الحنين الذي تزفر أنفاسه عصير القلب والكبد؟ .. هل هو شيء غير هذا الفرح السماوي تطرب له النفس والدنيا جميعا؟ .. هل هو شيء غير هذا الألم المشفق من الإخفاق والعودة إلى الوحدة والوحشة؟ .. هل هو شيء غير أن تسكن تلك الصورة الساذجة اللطيفة هذا الصدر فتصير زاد أحلامه ومبعث آماله وآلامه؟ .. بلى هو الحب، وإنه به لخبير!
وعاد إلى الزهرة فوجد الصحاب يتسامرون ويحتسون الشاي، ورأى الغلام محمد جالسا جنب والده يقلب في المكان عينيه النجلاوين، فسر لمرآه - وهو سفير هواه - وانجذبت نحوه روحه، واتخذ مجلسه المعتاد جنب الأستاذ أحمد راشد، وراح ينصت لسيد عارف الذي كان يقول بحماس: وسينتهز الألمان فرصة ضباب الخريف الكثيف ويهبطون على شواطئ إنجلترا وينهون الحرب!
فتساءل كمال خليل ضاحكا، وفي هدوء لا يهيج الأعصاب: كما هبط هيس؟!
فاستطرد سيد عارف غير ملق بالا إلى قوله: وستخر إنجلترا المتعجرفة صريعة قبل أن تفيق من هول الضربة.
فسأله أحمد راشد: كيف تغزو ألمانيا إنجلترا وجنودها مشتبكة في ذاك الصراع المخيف في روسيا؟ - أعد الفوهرر جيشا خاصا لغزو إنجلترا، وأرجح أن تسقط إنجلترا قبل روسيا إن لم تسقطا معا!
Page inconnue