ومضى الرجل نحو الممشى بملابسه القاتمة، المكونة من بلوفر أسود، وبنطلون رمادي غامق، وحذاء بني من المطاط، فعاد الكهل يتساءل: متى وأين رأيت هذا الرجل؟!
زيارة
ملقاة على الفراش بلا حول، عاجزة تماما عن أي حركة جدية عدا حركة الجفنين والعينين، أو رفع اليد إلى مستوى الصدر من حين لآخر، وقد امتص المرض حيويتها ولحمها، فلم يبق إلا جلد أصفر مشوب بزرقة وعظام بارزة تكاد تمزق الجلد عند المفاصل، وهي تنظر إلى لا شيء أو تغمض عينيها، وفي أحسن الأحوال لا ترى أبعد من جدران حجرتها.
نادت بصوت ضعيف رفيع كصوت طفل: عدلية.
ولكن عدلية لم تسمع، ستدعي أنها لم تسمع، وستجد عذرا في ضعف الصوت أو بعد المطبخ أو وش موقد الغاز، وهي لا تستطيع أن ترفع صوتها، ولا تستطيع أن تهدر مطالبها الصغيرة، ونادت مرة ثانية: عدلية.
ستجبن كالعادة عن لومها، إنها واقعة تحت رحمتها، تحت رحمتها تماما، هي لا تألو أن تسترضيها بالأجرة المحترمة والكساء والغذاء، إلا أنها تستأثر بتدبير شئون البيت، فهي سيدته الحقيقية، وما الحيلة في ذلك؟ إذا قررت عدلية يوما التخلي عن خدمتها، تركتها للضياع والموت، وهي تتجنب أن تثقل عليها أكثر مما تقتضيه الضرورة الملحة، ولكن ما العمل ونداء الحياة لا يكف عن التردد حتى النفس الأخير.
واستجمعت قواها الخائرة ونادت للمرة الثالثة: عدلية!
وتجمع الغضب بين عظام صدرها، ولكنها لم تستسلم لطغيانه. عدلية على أي حال مرهقة بالعمل، إنها تكنس وتغسل وتطبخ، تتسوق وتستبضع، وتقوم من شخصها مقام اليدين والقدمين والحواس جميعا، هي كل شيء لها، فهي تطعمها وتسقيها وتنظفها، تجلسها وتنيمها وتريحها من جنب لجنب.
وارتفع صوتها قليلا متشكيا متباكيا وهي تنادي: عدلية!
ترامى وقع أقدام ثقيلة، ثم ظهرت عدلية عند باب الحجرة، بوجه جامد يحمل طابع تذمر ثابت، وتساءلت بنبرة لا تخلو من جفاء: تنادينني يا ستي؟ - بح صوتي وأنا أناديك يا عدلية.
Page inconnue