رماه بنظرة غاضبة كاسرة متحفزة قاتمة من اليأس؛ انتفخ وجهه، احتقن بدم أسود، برزت عروق الجبين نافرة وانعقدت كدمات زرقاء، أراد أن يتكلم، أن ينفجر صارخا، ولكن شفتيه انطبقتا كأنهما ألصقتا بالغراء، إنه يصارع قوة خفية، يدافع هجمة ضارية غير مرئية، يقاوم زحفا حانقا. وبسرعة مذهلة قبض على دورق النبيذ، وقذفه به بأقصى قوة فأصاب رأسه فوق الجبهة، تحطم الدورق، سال النبيذ على وجهه وعنقه ممزوجا بالدم. صرخ الرجل ألما وغضبا. انقض عليه وهو يترنح، يريد أن يقبض على عنقه، فتناول الآخر الشوكة وطعن بها عنقه بكل قوة يأسه، انكفأ فوق المائدة وهو يصرخ، ثم تهاوى على الأرض.
المجنونة
ما أكثر المعارك في حارتنا! للسبب الخطير والتافه على السواء تنشب المعارك في حينا، ما من ساعة من نهار أو ساعة من ليل إلا وتتطاير شتمة أو سخرية أو طوبة، يتشاجر اثنان أو أكثر، يستوي في ذلك الصغار والكبار، والويل لنا إذا طالت معركة فاتسعت دائرتها، وانضم إلى كل شخص فريق، فانتشرت كالنار والتهمت الأرجاء، وإذا كانت المعارك لا تدوم، أو لا يمكن أن تدوم، فإن رواسبها لا تزول أبدا، ومضاعفاتها تستفحل يوما بعد يوم، حتى أمسى جونا مشحونا بالتربص والحذر والكراهية والخوف، جو سريع الاشتعال قابل في أي لحظة للانفجار، ربما لمجرد نكتة أو غمزة عين أو نحنحة.
من بين المعارك التي ابتلينا بها، برزت معركة بروزا داميا لا ينسى، معركة غريبة فظيعة غامضة، غطت على جميع ما سبق أو لحق بها من المعارك، فلذلك سميت بالمجنونة، وجرت في تاريخنا أسطورة من الأساطير.
في ذات يوم اجتاحت الحارة معركة شاملة، اشترك فيها جميع من اتفق وجودهم على أرضها من عاملين وعاطلين. تضاربوا بادئ الأمر بالأيدي والأرجل والرءوس، وكلما جذبت إليها أحدا بدافع من حب الاستطلاع، أو الاطمئنان على عزيز، أو المصالحة بين متخاصمين، وجد نفسه بعد حين مشتركا فيها بطريقة أو بأخرى، واشتد القتال وتضخم، واستعمل وسائل جديدة كالطوب والكراسي والعصي والآلات الحادة، وقد استمرت حوالي الساعتين قبل أن يترامى نبؤها إلى القسم، ولما جاء رجال الأمن، وجدوا أرض الحارة مغطاة بالقتلى والمحتضرين والمصابين إصابات قاتلة، وقد علا الصوات واحتدم اللطم. لم يسلم رجل واحد، وما من أسرة إلا وفقدت رجلا أو أكثر، وكان للخبر وقع شديد لدى الجهات المسئولة، وبمجرد نشره في صحف تلك الأيام مصحوبا ببعض الصور الدامية، اهتز الرأي العام هزة عنيفة غاضبة، ووقف رجال الأمن حيارى. هل تقتصر مهمتهم على دفن الموتى؟! ما السبب؟ من البادئ؟ من المسئول؟ ومن عسى أن يجيب بعد أن سوى الموت بين المعتدي والمعتدى عليه، وحتى متى ترتكب هذه الفظائع بلا خوف أو اكتراث أو تقدير للعواقب؟! - علينا أن نصل إلى الحقيقة مهما كلفنا الأمر.
ولكن أي جدوى تنتظر من وراء ذلك، وأي جديد هناك؟! ثمة عداوات قديمة وجديدة، ومنافسات على الفتونة، ولكن قد هلك الجميع بلا استثناء، لم يبق شخص واحد من الذين اشتركوا في المعركة، لم ينج إلا من كان يسعى وراء رزقه خارج الحارة، ولدى أوبتهم اكتشف كل أنه فقد ابنا أو أبا أو عما أو خالا. - يمكننا أن نتصور كيف تبدأ المعارك وكيف تتسع، ولكن من المحرك الأول؟ من المسئول؟
قالت امرأة: خرجت من بيتي لأرمي ماء الغسيل في الحارة، فرأيت العجل يجري وهو يحلف بأيمانه ودينه لينتقمن.
ينتقم ممن ولمن؟ لم تسمع أكثر من ذلك، عادت إلى حجرتها، وبعد وقت قصير ارتفعت ضجة كبيرة. - نظرت من الشباك، فرأيت عددا من الرجال لا يعد ولا يحصى، يضربون ويضربون ويسقطون! - أرأيت العجل بينهم؟ - كان يقاتل والدماء تغطي وجهه وصدره. - ومن الآخر الذي قاتله؟ - كان من المستحيل أن أعرف من مع من، أو من ضد من.
حسن، محتمل أن تكون المعركة قد بدأت بالعجل، ومحتمل أن تكون بدأت قبل ذلك، وأنه جرى لينتقم للجانب المعتدى عليه، ولكن من هو العجل؟! هو دقاق طعمية، ومن رجال عجرمة، فهل ترجع المعركة إلى العداوة التقليدية بين رجال عجرمة ورجال المناديلي؟! ولكن شهد كثيرون بأن العلاقات بين عجرمة والمناديلي كانت تنعم بما يشبه الهدنة، وإن يكن من المستحيل التأكد من هذه النقطة بعد أن قتل العجل وعجرمة والمناديلي جميعا. - إذن، من هم الأشخاص الذين يخاطر العجل بروحه للانتقام لهم؟
أجاب كثيرون: شقيقه حتحوت.
Page inconnue