فقال علي ممتعضا: لولا الكذب والزور، لكنت الآن في بيتي آمنا.
فقال رجل: لولا استهتارك لكان عياد المسكين في بيته آمنا.
رماهم الضابط بنظرة وعيد عقلت الألسنة، وساد السكون فاستشرى ألم الانتظار، ومر الوقت كأنما يسير إلى الوراء، ومضى علي في إرهاق غير محتمل حتى اضطر إلى الاستغاثة بالضابط من جديد، فسأله بلهجة غاية في الأدب: سيدي، لا أخالك تجهل ما أعانيه من عذاب، هل يمكن أن أعرف متى تأتي النيابة؟
فأجاب من وراء الجريدة في ضجر: أتظن أن حادثتك شيء يذكر بالقياس إلى الحوادث؟
كل هذا العذاب شيء لا يذكر، الآمال المهددة بالتلف شيء لا يذكر، العداوة الغامضة الأسباب بينه وبين الفلاحين شيء لا يذكر، والسماء المترامية التي وقع تحتها الحادث أهي شيء أيضا لا يذكر؟ بمرور الوقت ركبه الإرهاق وخنقه، ولم يعد يكترث كثيرا للمجازفة، فقال: سيدي الضابط ...
فقاطعه وكأنه كان يتربص به: أنت لا تريد أن تسكت! - ولكني في الواقع معذب. - لو شاركت في عذابات كل من يشرف النقطة لمت كمدا من أول يوم. - ألا يمكن السؤال على الأقل عن حال المصاب؟ - سأبلغ بأي جديد عنه دون سؤال من جانبي.
حياتي رهن بحياتك يا عياد، وقد تهزأ الملابسات بذكاء النيابة، وهل إدخالي إلى السجن بلا ذنب شيء لا يذكر؟! ومن الخير - إن أمكن - أن ترمي بالأعباء من فوق كاهلك، وأن تبتسم في استهتار وبلاهة، وكانت الدموع تراودك، وها هو الضحك يوشك أن يجتاحك. بالله تذكر ذنوبك الماضية لتتعزى عن مأزقك، ولكن لا علاقة ولا رابطة. من قال إن الفوضى تعالج بالفوضى، وأعين هؤلاء الفلاحين ترى من خلال منظار أسود، ركبته الأجيال فوقها، ولكنني لم أسهم في صنعه، أو لعلني أسهمت وأنا لا أدري، وها أنا أفكر لأول مرة في حياتي، وسوف أفكر طويلا وراء الجدران، وقد تم التعارف اليوم بيني وبين أشياء لم أعرفها قبلا بالسماع؛ المصادفة، القدر، الحظ، النية والعمل، الفلاح والضابط والأفندي، الرياح الموسمية، البترول، سيارات النقل، قراءة الصحف في النقطة، ما يذكر وما لا يذكر. كل شيء يجب أن يعاد التفكير فيه، كل شيء كشيء وككل. يجب أن نبدأ من الألف لنفهم كل شيء، ولنسيطر على كل شيء، وحتى لا يوجد شيء لا يذكر. وليس الزلزال بمسئول، ولكن المسئول هو الجهل، وعليك ألا تذعن بعد اليوم لدكتاتورية المجموعة الشمسية ولا للغة النجوم الغامضة، فكيف ترهب الضابط الذي يقرأ صفحة الوفيات دون أن يعزي أحدا؟
وقال بصوت قوي: شيء لا يطاق!
ظهر وجه الضابط فوق الجريدة حاملا نظرة إنكار، فقال بحدة: حضرتك تقرأ الجريدة ولا تفعل شيئا! - أنت تقول ذلك؟! - كما سمعت. - ألا تخاف؟ - لا أخاف شيئا. - إن كنت فقدت أعصابك فعندي لكل داء دواء! - وأنا عندي لكل داء دواء.
وقف الضابط وهو يقول بغضب: أنت؟! - أنت تؤخر حضور النيابة، أنت تمنع القانون. - سأضعك في السجن. - أهو أفظع من هذه الفوضى؟ - أتريد أن تدعي الجنون؟
Page inconnue