Keynes : une très brève introduction

Cabd Rahman Majdi d. 1450 AH
5

Keynes : une très brève introduction

جون مينارد كينز: مقدمة قصيرة جدا

Genres

استمر هذان الوصفان النمطيان حتى وقتنا هذا. فهؤلاء الذين يعارضون كينز يرون أنه قدم فرضيات مبتكرة لكنها في النهاية مشتتة وغير صحيحة؛ أما مؤيدوه فيرون أنه قدم أفكارا عميقة في مجال السلوك الاقتصادي، إلى جانب أدوات قيمة على نحو دائم للسياسات الاقتصادية. وكلا الوصفين صحيحان، بيد أنهما ناقصان. فشخصية كينز لها جوانب عديدة؛ فيرى الناس منه أوجها مختلفة. هذا بخلاف أنه تغير؛ ما يعني أن الأجيال المختلفة رأته بأشكال مختلفة. ولقد كان كينز بالفعل يحب التلاعب بالأفكار بطريقة متهورة، لكن صديقه أوزوالد فولك قال عنه: «بهذه الطريقة، ورغم الشواهد المضللة، كان أسرع في مواكبة سير الأحداث من غيره.» وقد كان بارعا في صياغة عبارات قوية، وكان يستخدم الكلمات عن عمد لاستثارة الناس وإخراجهم من حالة الكسل العقلي. لكن «حينما وصل إلى مكانة كبيرة في عقول الناس، لم يعد الاستخدام الجمالي للغة مقبولا.» صحيح أنه ليس هناك مجال للشك فيما يتعلق بجدية نوايا الرجل، لكن السؤال الأساسي يكمن فيما إذا كانت المفاهيم التي صاغها ونقلها إلينا هي المفاهيم الصحيحة لفهم عالمه وعالمنا من بعده أم لا.

إن أفكار كينز تضرب بجذورها في زمانه ومكانه؛ فقد ولد عام 1883 وتوفي في عام 1946. كان مولده في عالم افترض أن طريق السلام والرخاء والتقدم هو الطريق الطبيعي للعالم، وعاش طويلا على نحو كاف حتى رأى تلك التوقعات وهي تنهار. فعندما اشتد ساعده، كانت بريطانيا هي قلب إمبراطورية عظمى، في حين شهدت الأشهر الأخيرة من حياته استجداءها للولايات المتحدة الأمريكية. ولم يعاصر في حياته انهيار الإمبراطورية البريطانية فحسب، بل شهد كذلك الوهن وهو ينخر عظام الاقتصاد البريطاني. وشهدت حياته تحولا من اليقين إلى الشك، ومن حديقة طفولته السعيدة إلى غابة سنوات نضجه حيث الوحوش الضارية. وفي عام 1940، كتب إلى مراسل أمريكي يقول: «للمرة الأولى منذ أكثر من قرنين أصبحت رسالة هوبز إلينا أهم من رسالة لوك.»

كان كينز نتاج تفكك تقاليد العصر الفيكتوري. وهذا ما جعل مشكلة السلوك الشخصي والاجتماعي في قلب اهتماماته. لكن فيما قبل الحرب العالمية الأولى، غمر هذا التفكك كينز ومعاصريه بفيض من السعادة؛ فقد رأوا أنفسهم أول جيل يتحرر من الخرافات المسيحية، ورأوا في أنفسهم أيضا صانعي عصر تنويري جديد، والمستفيدين منه، والذين يمكنهم صياغة أفكاره وقواعد سلوكه في ضوء العقل فقط. فكانت أفكارهم شخصية وجمالية؛ فالحياة العامة كانت محبطة إلى حد ما؛ لأنه بدا أن معارك التقدم الكبيرة كلها قد باتت محسومة. وأصبحت التجربة لغة العصر في الفنون والفلسفة والعلوم وفي أساليب الحياة بدلا من السياسة والاقتصاد؛ فقد ولد دياجاليف عام 1872، وولد بيكاسو عام 1881، وجروبيس عام 1883، وجيمس جويس وفيرجينيا وولف في عام 1882، وولد راسل في 1872، وجي إي مور عام 1873، وولد فيتجنشتاين عام 1889، وأينشتاين عام 1880. وكان فرويد - أحد هؤلاء الذين شكلوا الوعي في أوائل القرن العشرين - هو الوحيد الذي لا ينتمي لهذا الجيل؛ فقد كان ميلاده في عام 1856.

نشبت الحرب العالمية الأولى، وتغير بعدها كل شيء. وبعد عام 1914 برزت قضية إدارة العالم الذي ننتمي إليه؛ وهو عالم اتضح أنه ينزلق إلى الفوضى. فكانت القضية هي قضية السيطرة لا التحرر. واعترف كينز عام 1938 أن الحضارة «كانت مجرد قشرة رقيقة غير مستقرة.» استولى رجال الحكم على مقاليد الأمور، عاقدين العزم على فرض تصوراتهم عن النظام للقضاء على الفوضى؛ حيث ولد ستالين عام 1879، وموسوليني عام 1883، وهتلر عام 1889. وفقدت الحداثة براءتها، وتراجع المرح مفسحا المجال للرعب. وبدأ كينز يتأمل عقيدته. وفي عام 1934 قال لفرجينيا وولف: «بدأت أعتقد أن جيلنا - جيلي أنا وأنت - يدين بشكل كبير لدين آبائنا. فلن يخرج الصغار ... الذين لم يتربوا عليه بالكثير من الحياة. فهم تافهون كالكلاب يجرون وراء شهواتهم. لقد فزنا بأحسن ما في العالمين؛ فقد انتصرنا على المسيحية، لكننا مع ذلك فزنا بمزاياها.» لكن النقطة الأهم تكمن في أنه لم يستسلم قط لسياسات اليأس الثقافي. فرغم كل شيء، بقيت لديه بهجة الحقبة الإدواردية. فالشك يمكن مواجهته، ليس بالقوة الوحشية، وإنما بالعقول وتوظيف الذكاء، وعندها يمكن استعادة التوافق مرة أخرى. كانت تلك عقيدته النهائية ورسالته، إن جاز التعبير، لعصرنا.

كان كينز مؤهلا جيدا لنقل تلك الرسالة؛ فقد كتب برتراند راسل يقول إن «عقل كينز كان الأذكى والألمع بين كل من عرفتهم. فعندما كنت أجادله، كنت أشعر أنني أرى حياتي أمام عيني، ولم أكن أشعر فيها قط بأني كنت أحمق إلا أمامه.» لكن ثمة آخرون شعروا أنه استخدم عبقريته بشكل مفرط، ومن بين هؤلاء كينيث كلارك الذي قال عنه إنه: «لم يخفت اتقاد ذهنه قط.» لكن تفكيره المتدفق هذا هو ما صدم معاصريه على نحو أساسي؛ فكانت لديه نزعة - كما يقول كينجسلي مارتن - «للالتفاف حول العقبات التي تقف أمامه وتجاوزها بدلا من التخلص منها. فهو مثل التيار يبدو عادة وكأنه يتحرك في اتجاهات متعاكسة.» ومن العبارات الساخرة التي شاعت في حياة كينز أنه لا يجتمع خمسة من الاقتصاديين إلا وتجد ستة آراء؛ اثنان منها لكينز. ويقول كينجسلي مارتن: «لكن الاتهامات التي وجهت إليه بالتقلب واتباع النزوات، لم تعن شيئا سوى أن عقله يتعامل بسرعة وبشجاعة الفرسان على نحو ما مع الصعوبات العملية، ليقدم حلا ممكنا تلو الآخر بشكل يرعب ويذهل أهل الحذر وجمود الفكر.» وتكمن المفارقة - كما قال كيرت سينجر - في أنه يمكن لشخص «لا يجد ضالته إلا في الحركة ... والذي يمكنه أن يبني ويهدم في يوم واحد عددا كبيرا من الفرضيات الفكرية الرائعة» أن يترك للعالم «كتاب عقيدة جديدة».

مع ذلك فمن الخطأ أن نحكم عليه، كما حكم عليه لويد جورج، بأنه «نبتة بلا جذور»؛ فقد ولد في العصر الفيكتوري، وظل يحتفظ بآثار «القيم الفيكتورية» طوال حياته. وورث كينز حسا قويا بالواجب، رغم أنه - مثل سيدجويك - لم يجد مبررا لذلك من الناحية الفلسفية. لقد آمن بهيمنة النخبة النبيلة أو الأرستقراطية الفكرية. وهذه الفكرة تخلط بين ما هو اجتماعي وما هو فكري؛ مما يعكس صعود عائلة كينز، من خلال التفوق العقلي ونجاح الأعمال، إلى دائرة النخبة الحاكمة في العصر الفيكتوري. وقد كان وطنيا فكريا، رغم أن وطنيته خلت من أي أثر للتطرف. وقد آمن بشدة بفضائل حقبة السلام النسبي الذي ساد أوروبا والعالم بعد هيمنة الإمبراطورية البريطانية على العالم، ولم يقتنع بوجود أي قوة أخرى يمكنها أن تتولى دور بريطانيا العالمي. كما كان مؤيدا لألمانيا ومعارضا لفرنسا، وهو ما ورثه أيضا عن القرن التاسع عشر.

كانت مخالفة العرف عاملا حاسما في تكوين شخصية كينز. وهو ما يظهر في أسلوبه المقتصد. فقد رأى الناس أن متعه كانت «قليلة جدا»؛ ففي نهاية حياته ندم على أنه لم يشرب المزيد من الخمر. وعلى الرغم من أنه قد أصبح فاحش الثراء، فإنه قد عاش باعتدال دون أبهة أو بذخ. وبصفته اقتصاديا، شغل تفكيره على نحو كبير ميل الناس لكنز الأموال بدلا من إنفاقها، وترجم هذا العيب الثقافي، أو النفسي، الموجود في سلوك الطبقة التي ينتمي لها إلى تفسير مفعم بالمفارقة لاحتمال سقوط الاقتصاديات الرأسمالية.

انحدر كينز من عائلة من الوعاظ، وخاصة من ناحية الأم. وكان ضمن الجيل الأول ممن لم يؤمنوا بالدين، والذين لم تزعجهم «الشكوك»، لكن اللاهوت كان يجري منه مجرى الدم، وكان الحد الفاصل بين علم اللاهوت وعلم الاقتصاد أصغر مما هو عليه اليوم. لكن كانت لديه قدرة كبيرة على مخالفة العرف والاعتراض مثل المنشقين البروتستانت؛ فقد كانت مقالاته الاقتصادية بمنزلة مواعظ علمانية. إن «الفردية غير المسبوقة لفلسفتنا» التي أشار إليها عام 1938 قامت على الاعتقاد بأن الإنسان (على الأقل في إنجلترا) هذبته القيم الفيكتورية أخلاقيا على النحو الكافي، وأصبح على استعداد «لأن يتحرر بأمان من القيود الخارجية للعرف والمعايير التقليدية وقواعد السلوك الجامدة، وأن يترك - من الآن فصاعدا - لملكاته العقلانية ودوافعه النقية وفطرته الخيرة السليمة.»

لم يحظ كينز بتعاطف اجتماعي كبير، رغم أنه نما بمرور الوقت؛ فقد بنت عائلته العصامية نفسها بسواعدها، وعلى نحو عام توقع أن يفعل الآخرون نفس الشيء، بشرط توافر فرص العمل التي تكفي الجميع. أما بالنسبة للباقين، فقد كانت هناك جمعية تنظيم العمل الخيري وغيرها من الجمعيات النموذجية التي ظهرت في منتصف العصر الفيكتوري لمساعدة غير القادرين ومدمني الخمر. لكن نزعة كينز الموروثة لمخالفة العرف انحسرت أمام القبول الاجتماعي؛ فقد انتقل إلى كلية إيتون (وهي أفضل مدرسة في بريطانيا في ذلك الوقت)، ونما حبه لرفقة زملائه النابغين الأكبر منه سنا. وقد أحب أيضا مرافقة الأغنياء وذوي النسب، رغم أنه لم يفرط في الاندماج معهم. وعندما كبر كينز أصبح أكثر تحفظا، ليكون رائدا للاستمرارية والتطور؛ فقد كتب في نهاية كتابه «النظرية العامة» أن النتائج الاجتماعية التي خرجت من أفكاره الاقتصادية كانت «إلى حد ما متحفظة». ورأى أن الرأسمالية التي كان ينبذها أخلاقيا يمكنها أن تبقى لكن في ظل إدارة محسنة.

أما ما لم يتغير منذ طفولة كينز، فكان عاداته في العمل؛ فقد كان يعمل كأكثر الآلات كفاءة. وبهذا فرض نظامه الخاص على عالم فوضوي. وهو ما مكنه من أن يعيش حيوات عديدة، وأن يستمتع ويتحمس لكل منها؛ فقد شغل كل لحظة في يومه بأنشطة وخطط متنوعة. وكان يؤدي كل أعماله في سرعة مبهرة. وامتلك قدرة عجيبة على الانتقال من مهمة إلى أخرى؛ ورغم كل ما كان يفعله، لم يبد عليه التسرع، وكان لديه وقت وفير للأصدقاء والتحدث وممارسة الهوايات.

Page inconnue