6
ولكنا سبق بنا أن تكلمنا عليها في كتابنا «الحركة»؛ إذ قررنا فيه أنه يوجد من جهة شيء غير متحرك طول الأبد كله ومن جهة أخرى شيء على ضد ذلك واقع في حركة أبدية. فدراسة المبدأ غير المتحرك للأشياء تتعلق بفلسفة أخرى عليا. وأما المحرك الذي يحرك كل البقية لأنه هو نفسه قد حرك بحركة مستمرة، فإننا سنتكلم عليه فيما بعد عندما نوضح ما هي علة كل واحدة من الظواهر الخاصة. وهنا نقتصر على علاج هذه العلة التي تظهر بصورة مادة، والتي تجعل أن كون الأشياء وفسادها لا يتخلفان في الطبيعة. ولكن هذه المناقشة قد تجلو أيضا الشك الذي أثرناه آنفا، وسيرى كيف ينبغي أن يعنى أيضا بالفساد المطلق وبمطلق كون الأشياء.
7
ومع ذلك فإنها مسألة محيرة أن يعرف ماذا عسى أن تكون العلة التي تدبر وتسلسل تناسل الأشياء إذا فرضنا أن ما يفسد يرجع إلى العدم، وأن اللاوجود ليس شيئا؛ لأن ما ليس موجودا ليس جوهرا ولا كيفا ولا كما ولا أينا ... إلخ؛ لأنه حينئذ ما دام في كل آن واحد من الكائنات يبيد وينعدم كيف يتأتى أن العالم بتمامه لم يكن قد فني منذ زمان طويل ألف مرة إذا كان المنبع الذي يأتي منه كل واحد من هذه الكائنات محدودا ومتناهيا؟ في الحق إذا كان هذا التوارث الأبدي لا ينقطع ألبتة فليس ذلك بأن الينبوع الذي تصدر منه الكائنات يكون غير متناه؛ لأن ذلك محال تماما ما دام أنه في الواقع لا شيء غير متناه. وإنه إنما يكون فقط بالقوة أن شيئا يمكن أن يكون غير متناه في القسمة، وقد وضحنا أن القسمة هي وحدها محل عدم الانقطاع وعدم الفوات؛ لأنه يمكن دائما الحصول على كمية أضعف فأضعف. ولكنا ها هنا لا نرى وجها للمشابهة. أفلا تصير أبدية التعاقب ضرورية بهذا السبب وحده أن فساد شيء هو كون شيء آخر، وأن العكس بالعكس: كون هذا موت ذلك أو فساده؟
8
وبهذا تلغى علة يمكنها أن تكفي لتوضيح كل شيء بالنسبة لكون الأشياء وفسادها، ها هنا في عمومها، وهناك في كل فرد من الكائنات بخصوصه، على أنه مع هذا يلزم البحث في أنه لماذا عند الكلام على بعض الأشياء يقال بطريقة مطلقة إنها تكون وتهلك، في حين أنه عند الكلام على بعض أشياء أخرى لا يقال ذلك على إطلاقه، إذن كان حقا أن كون موجود بعينه هو عين فساد آخر، وإذن كان العكس بالعكس؛ فساد هذا هو كون لذاك.
9
هذا التباين في التعبير يقتضي أيضا أن يفسر ما دام أننا نقول عن كائن في حالة بعينها إنه فسد مطلقا لا أنه فسد من وجه بعينه فقط، وما دمنا نصرف الكون إلى معنى مطلق كما نصرف الفساد سواء بسواء. على ذلك فشيء بعينه يصير شيئا آخر بعينه، ولكنه لا يصير على الإطلاق. انظر مثلا كيف نقول عن شخص يتعلم إنه يصير عالما ، ولكننا لا نقول من أجل ذلك إنه يصير ويكون على الإطلاق. وبادكار ما قلناه غالبا من أن بعض الأسماء تدل على جوهر حقيقي والبعض الآخر لا يدل عليه يمكن معرفة من أين تأتي المسألة المطروحة ها هنا؛ لأنه يهم كثيرا أن يعين فيم يتغير الشيء الذي يتغير، مثال ذلك تحول الشيء الذي يصير نارا يمكن أن يسمى كونا مطلقا، ولكن أيضا فسادا لشيء للأرض مثلا. وكذلك كون الأرض هو بلا شك أيضا كون، ولكنه ليس كونا مطلقا مع أنه فساد مطلق، ومثلا فساد النار.
10
بهذا المعنى كان برمينيد لا يعترف إلا بشيئين في الدنيا؛ الموجود واللاموجود، وهما عنده النار والأرض، على أنه ليس من المهم افتراض هذه العناصر أو عناصر أخرى مشابهة لها؛ لأننا لا نبحث إلا في الطريقة التي بها تحصل الظواهر لا في موضوعها. إذن التغيير الذي يوصل الأشياء إلى اللاوجود المطلق إنما هو فساد مطلق، وبالعكس ما يوصلها مطلقا إلى الوجود هو كون مطلق. ولكن مهما كانت الجواهر التي يعتبر فيها الكون والفساد، سواء النار أو الأرض أو عنصر آخر مشابه؛ فإن الكون والفساد لا يزالان أحدهما للوجود والآخر للاوجود.
Page inconnue