بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله على مَا أفهم من الْبَيَان وألهم من التِّبْيَان وَأشْهد أَن لاإله إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شهاد عقدهَا الْجنان ونطق بهَا اللِّسَان وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الْمُخْتَار من ولد عدنان الْمَبْعُوث بأعظم شان وأفصح لِسَان صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه القادة الْأَعْيَان ذَوي البلاغة والبراعة والمحاسن والأحسان
وَبعد فَإِن علم الْحَلَال وَالْحرَام الَّذِي بِهِ صَلَاح الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى وَهُوَ الْمُسَمّى بِعلم الْفِقْه مستمد من علم أصُول الْفِقْه وَعلم الْعَرَبيَّة
فَأَما استمداده من علم الْأُصُول فَوَاضِح وتسميته بأصول الْفِقْه ناطقة بذلك
وَأما الْعَرَبيَّة فَلِأَن أدلته من الْكتاب وَالسّنة عَرَبِيَّة وَحِينَئِذٍ فَيتَوَقَّف فهم تِلْكَ الْأَدِلَّة على فهمها وَالْعلم بمدلولها على علمهَا
وَأما الْحَافِظ للأحاديث الْعَالم بسندها وطرقها (وَجَمِيع رِوَايَاتهَا) من غير أَن يقوى بَاعه فِي العلمين الْمَذْكُورين فَحكمه حكم من اعتنى بِالْكتاب الْعَزِيز فحفظه وأتقن رواياته السَّبع وَأكْثر مِنْهَا وَأحكم سَنَده وَلَا يخفى بعد من
1 / 185
ذَكرْنَاهُ عَن الِاجْتِهَاد واستنباط الْأَحْكَام فَإِذا تقرر مَا ذَكرْنَاهُ فقد كَانَ إمامنا الشَّافِعِي ﵁ هُوَ رَأس أَرْبَاب الْمذَاهب فِي هذَيْن العلمين وَعَلِيهِ الْمعول بَينهم فِي كلا الْأَمريْنِ
أما أصُول الْفِقْه فَإِنَّهُ المبتكر لَهُ بِلَا نزاع وَأول من صنف فِيهِ بِالْإِجْمَاع كَمَا أوضحته فِي كتاب التَّمْهِيد
1 / 186
وَأما الْعَرَبيَّة فَكَانَ فِيهَا هُوَ الْكَعْبَة والمحجة وَالَّذِي ينْطق بِهِ فِيهَا حجه كَمَا شهد بِهِ معاصروه من عُلَمَاء هَذَا الْفَنّ مِنْهُم ابْن هِشَام صَاحب سيرة رَسُول الله ﷺ مَعَ كَونه معاصرا لَهُ ومساكنا لَهُ بِمصْر فَإِن الشَّافِعِي مَاتَ سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ وَمَات ابْن هِشَام سنة ثَلَاث عشرَة وَقيل ثَمَان عشرَة وَمَا نَقَلْنَاهُ عَن ابْن هِشَام قد نَقله ابْن الصّلاح فِي طبقاته فِي فصل المحمدين عَن ابْن عبد البر الْمَالِكِي بِسَنَدِهِ الصَّحِيح إِلَيْهِ أَعنِي إِلَى ابْن هِشَام وَلأَجل مَا ذَكرْنَاهُ من كَون كَلَامه حجَّة يعبر الإِمَام أَبُو عَمْرو بن الْحَاجِب فِي تصريفه بقوله وَهِي لُغَة الشَّافِعِي كَمَا يَقُول كغة (بني) تَمِيم وَرَبِيعَة وَنَحْوهمَا هَذَا وَهُوَ من المقلدين للْإِمَام مَالك ﵁ إِلَّا أَن علمه وَدينه قد حملاه على الِاعْتِرَاف بذلك وَكَيف لَا يكون الشَّافِعِي أَيْضا بِهَذِهِ الصّفة وَهُوَ من حرم مَكَّة شرفها الله تَعَالَى أَفْخَر دور العبر وَنسبه فِي قُرَيْش إِلَى الْمطلب
1 / 187
أخي هَاشم وَذَلِكَ أشرف النّسَب وَقد مدحته قَدِيما ببيتين متعرضا لهَذَا الْمَعْنى وذكرتهما فِي عدَّة تصانيف اشهارا لَهما وهما
يَا من سما نفسا الى نيل العلى
ونحا الى الْعلم الْعَزِيز الرافع ... قلد سمي الْمُصْطَفى ونسيبه
والزم مطالعة الْعَزِيز الرَّافِعِيّ
فَلَمَّا اتّصف امامنا ﵁ بِمَا وصفناه واشتمل على مَا ذَكرْنَاهُ كَانَ مذْهبه أصح مَذَاهِب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة مدْركا وأرجحها مسلكا وَإِن كَانَ كل مِنْهُم أَمَام هدى وَبِه يتَقرَّب إِلَى الله تَعَالَى ويقتدى ﵃ أَجْمَعِينَ وَرَضي عَنَّا بهم وَقد اعتنيت قَدِيما بِهَذَيْنِ العلمين بخصوصهما وصرفت لَهما مُدَّة مديدة همتي وأسهرت فيهمَا ليَالِي طَوِيلَة مقلتي حَتَّى انتصبت للإقراء فيهمَا ولي من الْعُمر دون الْعشْرين سنة وَكَاد نَظَرِي فِي العلمين الْمَذْكُورين يغلب على نَظَرِي فِي علم الْفِقْه وَلم أزل كَذَلِك إِلَى أَن أَرَادَ الله تَعَالَى صرف الهمة عَنْهُمَا وَعَن غَيرهمَا إِلَيْهِ وقصور النّظر غَالِبا عَلَيْهِ حَتَّى برز بِحَمْد الله تَعَالَى من التأليفات الْفِقْهِيَّة الغريبة مَا قضى بِهِ وَقدر وطار اسْمه فِي الْآفَاق واشتهر ثمَّ بعد ذَلِك كُله استخرت الله تَعَالَى فِي تأليف كتابين ممتزجين من الفنين الْمَذْكُورين وَمن الْفِقْه لم يتقدمني اليهما أحد من أَصْحَابنَا
1 / 188
أَحدهمَا فِي كَيْفيَّة تَخْرِيج الْفِقْه على الْمسَائِل الْأُصُولِيَّة
وَالثَّانِي فِي كَيْفيَّة تَخْرِيجه على الْمسَائِل النحوية
فأذكر أَولا الْمَسْأَلَة الْأُصُولِيَّة أَو النحوية مهذبة منقحة ثمَّ أتبعهَا بِذكر جملَة مِمَّا يتَفَرَّع عَلَيْهَا ليَكُون ذَلِك تَنْبِيها على مالم أذكرهُ ثمَّ أَن الَّذِي أذكرهُ على أَقسَام فَمِنْهُ مَا يكون جَوَاب أَصْحَابنَا فِيهِ مُوَافقا للقاعدة وَمِنْه مَا يكون مُخَالفا لَهَا وَمِنْه مَا لم أَقف فِيهِ على نقل بِالْكُلِّيَّةِ فأذكر فِيهِ مَا تَقْتَضِيه الْقَاعِدَة مَعَ مُلَاحظَة الْقَاعِدَة المذهبية والنظائر الفروعية وَحِينَئِذٍ فَيعرف النَّاظر فِي ذَلِك مَأْخَذ مَا نَص عَلَيْهِ أَصْحَابنَا وفصلوه ويتنبه بِهِ على اسْتِخْرَاج مَا أهملوه هَذَا مَعَ أَن الْفُرُوع الْمَذْكُورَة مهمة مَقْصُودَة فِي نَفسهَا بِالنّظرِ وَكثير مِنْهَا قد ظَفرت بِهِ فِي كتب غَرِيبَة كَمَا ستراه مُبينًا إِن شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ أنني بدأت بالنوع الأول من هذَيْن النَّوْعَيْنِ وَيسر الله الْفَرَاغ مِنْهُ على النَّحْو الْمَطْلُوب وَالْوَجْه المحبوب مُسَمّى بالتمهيد ثمَّ شرعت فِي الثَّانِي مستعينا بِاللَّه تَعَالَى وسميته بالكوكب الدُّرِّي
وَاعْلَم أنني إِذا أطلقت شَيْئا من الْمسَائِل النحوية فَهِيَ من كتابي شَيخنَا أبي حَيَّان اللَّذين لم يصنف فِي هَذَا الْعلم أجمع مِنْهُمَا وهما
1 / 189
الارتشاف وَشرح التسهيل فَإِن لم تكن الْمَسْأَلَة فيهمَا صرحت بذلك
وَإِذا أطلقت شَيْئا من الْأَحْكَام الْفِقْهِيَّة فَهُوَ من الشَّرْح الْكَبِير للرافعي أَو من الرَّوْضَة للنووي رحمهمَا الله تَعَالَى فَإِن لم يكن فيهمَا صرحت بذلك ورتبته على أَرْبَعَة أَبْوَاب الأول فِي الْأَسْمَاء الثَّانِي فِي الْأَفْعَال الثَّالِث فِي الْحُرُوف الرَّابِع فِي تراكيب مُتَعَلقَة بِأَبْوَاب مُتَفَرِّقَة وَقد مهدت بِهَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ طَرِيق التَّخْرِيج لكل ذِي مَذْهَب وَفتحت بهما بَاب التفريغ لكل ذِي مطلب فلتستحضر أَرْبَاب الْمذَاهب مَا يعرض لَهَا من التَّفْرِيع ثمَّ تسلك مَا سلكته فَيحصل بِهِ النَّفْع التَّام للْجَمِيع إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالله المسؤول أَن ينفع بِهِ مُؤَلفه وكاتبه وقارئه والناظر فِيهِ وَجَمِيع الْمُسلمين بمنه وَكَرمه لَا رب غَيره وَلَا مرجو سواهُ وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل
1 / 190
ﷺ َ - الْبَاب الأول فِي الْأَسْمَاء ﷺ َ -
1 / 191
فِي الْأَسْمَاء وَفِيه فُصُول يشْتَمل كل مِنْهَا على مسَائِل
فصل فِي لفظ الْكَلَام اعْلَم أَن الْكَلَام فِي اللُّغَة اسْم جنس يَقع على الْقَلِيل وَالْكثير كَذَا صرح بِهِ الْجَوْهَرِي ثمَّ زَاد عقبه أيضاحا فَقَالَ يَقع على الْكَلِمَة الْوَاحِدَة وعَلى الْجَمَاعَة مِنْهَا بِخِلَاف الْكَلم فَإِنَّهُ لَا يكون أقل من ثَلَاث كَلِمَات انْتهى فعلى هَذَا إِذا قلت كلمت زيدا فَمَعْنَاه وجهت الْكَلَام إِلَيْهِ
وَقَالَ ابْن عُصْفُور الْكَلَام فِي أصل اللُّغَة اسْم لما يتَكَلَّم بِهِ من الْجمل مفيدة كَانَت أَو غير مفيدة وَمَا ذكره من كَونه اسْما لَا مصدرا مُوَافق لما سبق عَن الْجَوْهَرِي وَحِينَئِذٍ فَيكون اسْما للألفاظ أَو مُشْتَركا بَينهَا وَبَين الْمعَانِي النفسانية وَأما تَقْيِيده بالجمل فمخالف لَهُ وَلغيره وَكَأَنَّهُ عبر بذلك نظرا للْغَالِب هَذَا كُله إِذا لم يسْتَعْمل اسْتِعْمَال الْمصدر كَقَوْلِك سَمِعت كَلَام زيد وَقَوله تَعَالَى ﴿حَتَّى يسمع كَلَام الله﴾ وَنَحْو ذَلِك فَإِن اسْتعْمل اسْتِعْمَاله كَقَوْلِك كلمت زيدا كلَاما أَو تكلم كلَاما فَاخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا قَالَه ابْن الخباز فِي
1 / 193
شرح الجزولية فَقيل إِنَّه مصدر لأَنهم أعملوه فَقَالُوا كَلَامي زيد أحسن وَقيل انه اسْم مصدر وَنَقله ابْن الخشاب فِي شرح جمل الْجِرْجَانِيّ الْمُسَمّى بالمرتجل عَن الْمُحَقِّقين
والخباز الْمَذْكُور أَولا فِي آخِره زَاي مُعْجمَة (والخشاب) الْمَذْكُور ثَانِيًا بالشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة وَالدَّلِيل على أَنه اسْم مصدر أَن الْفِعْل الْمَاضِي الْمُسْتَعْمل من هَذِه الْمَادَّة أَرْبَعَة
أَحدهَا كلم ومصدره التكليم كَقَوْلِه تَعَالَى ﴿وكلم الله مُوسَى تكليما﴾ وَكَذَلِكَ الْكَلَام بِكَسْر الْكَاف وَتَشْديد اللَّام كَقَوْلِه تَعَالَى ﴿وكذبوا بِآيَاتِنَا كذابا﴾ كَذَا قَالَه الْجَوْهَرِي وَمُقْتَضى كَلَامه أَن الثَّانِي مقيس وَلَكِن نَص النُّحَاة على خِلَافه
1 / 194
الثَّانِي تكلم ومصدره التَّكَلُّم بِضَم اللَّام وَمِنْه مَا أنْشدهُ ابْن الخشاب ... ونشتم بالأفعال لَا بالتكلم ...
الثَّالِث كالم ومصدره المكالمة وَكَذَا الْكَلَام بِكَسْر الْكَاف وَالتَّخْفِيف كضارب مُضَارَبَة وضرابا إلاأن الثَّانِي لَا ينقاس
الرَّابِع تكالم ومصدره تكالما بِضَم اللَّام فَظهر بذلك أَنه لَيْسَ مصدرا بل اسْم مصدر وَلم يتَعَرَّض فِي الارتشاف لهَذَا الْخلاف
وَلما كَانَ مَقْصُود النُّحَاة إِنَّمَا هُوَ الْبَحْث فِي الْأَلْفَاظ ترجموا الْكَلَام لَا التكليم والتكلم والمكالمة وَنَحْوهَا لِأَنَّهَا مصَادر مدلولها تَوْجِيه الْكَلَام إِلَى المستمع أَو من فِي حكم المستمع كالنائم والساهي تَقول كَلمه يكلمهُ تكليما أَي وَجه الْكَلَام إِلَيْهِ يوجهه توجيها
فَإِن قيل فَمَا الْفرق بَين الْمصدر وَاسم الْمصدر قُلْنَا فرق ابْن يعِيش وَغَيره فَقَالُوا الْمصدر مَدْلُوله الْحَدث وَاسم الْمصدر مَدْلُوله لفظ وَذَلِكَ اللَّفْظ يدل على الْحَدث
وَهَذَا الْفرق يَأْتِي نَحوه فِي الْفِعْل كاسكت مَعَ اسْم الْفِعْل كصه وَخَالف بَعضهم فَقَالَ أَن اسْم الْفِعْل وَاسم الْمصدر كالفعل والمصدر فِي الدّلَالَة وَالْأول هُوَ
1 / 195
الصَّوَاب الْمُوَافق لمدلول اللَّفْظ وَبِه جزم فِي اسْم الْفِعْل شَيخنَا أَبُو حَيَّان فِي أَوَائِل شرح الألفية عِنْد قَول ابْن مَالك كصة (وحيهل) هَذَا كُله فِيمَا يتَعَلَّق بالْكلَام من جِهَة اللُّغَة فتفطن لَهُ فَإِنَّهُ مُشْتَمل على أُمُور مهمه وَأما حَده عِنْد النُّحَاة فَفِيهِ عبارتان أحسنهما أَنه قَول دَال على نِسْبَة إسنادية مَقْصُودَة لذاتها واحترزنا بالإسنادية عَن النِّسْبَة التقييدية كنسبة الْإِضَافَة نَحْو غُلَام زيد وَنسبَة النَّعْت نَحْو جَاءَ الرجل الْخياط واحترزنا بالمقصودة لذاتها عَن الْجمل الَّتِي تقع صلَة نَحْو جَاءَ الَّذِي خرج أَبوهُ
إِذا علمت مَا ذَكرْنَاهُ من تَفْصِيل الْكَلَام لُغَة وَاصْطِلَاحا وَعلمت أَنه يُطلق فِي اللُّغَة على الْكَلِمَة الْوَاحِدَة مستعملة كَانَت أم لَا وَأَن أقل مَا يُمكن أَن تكون الْكَلِمَة على حرفين وَأَن انْتِقَال الْكَلَام والكلمة إِلَى مَا ذكره النجَاة عرف لَهُم حَادث فِي اللُّغَة فيتفرع عَلَيْهِ مَا قَالَه أَصْحَابنَا من إبِْطَال الصَّلَاة بذلك لِأَن قَوْله ﵊ إِن صَلَاتنَا لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام الْآدَمِيّين متناول لَهُ لُغَة كَمَا تقدم وَعرفا فَإِن الْمغمى عَلَيْهِ وَنَحْوه
1 / 196
إِذا نطق مثلا بقوله الله وَنَحْوه (يَقُول الْحَاضِرُونَ) قد تكلم فتفطن لما ذكرته من المدارك فَإِنَّهُ يشكل على كثير من النَّاس وَيتَفَرَّع عَلَيْهِ أَيْضا مَا إِذا حلف لَا يتَكَلَّم فَأتى بذلك وَلم أره مَنْقُولًا
مَسْأَلَة
لَا يشْتَرط فِي الْكَلَام صدوره من نَاطِق وَاحِد وَلَا قصد الْمُتَكَلّم لكَلَامه وَلَا إِفَادَة الْمُخَاطب شَيْئا يجهله على الصَّحِيح فِي الثَّلَاث كَمَا ذكره فِي الارتشاف
فَأَما الْمَسْأَلَة الأولى فصورتها أَن يتواطأ (مثلا شخصان) على أَن يَقُول أَحدهمَا زيد وَيَقُول الآخر قَائِم
وَمن فروعها مَا إِذا كَانَ لَهُ وكيلان بِإِعْتَاق عبد أَو وَقفه أَو غير ذَلِك فاتفقا على أَن يَقُول أَحدهمَا مثلا هَذَا وَيَقُول الثَّانِي حر وَلَا استحضر فِيهَا الْآن نقلا
1 / 197
وَمِنْهَا أذا قَالَ لي عَلَيْك ألف فَقَالَ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ إِلَّا عشرَة أَو غير عشرَة وَنَحْو ذَلِك فَهَل يكون مقرا بباقي الْألف فِيهِ خلاف قَالَ فِي التَّتِمَّة الْمَذْهَب أَنه لَا يكون مقرا
ومدرك الْخلاف مَا ذَكرْنَاهُ وَعلله أَيْضا فِي التَّتِمَّة بِأَنَّهُ لم يُوجد مِنْهُ إِلَّا فِي بعض مَا قَالَه خَصمه وَنفي الشَّيْء لَا يدل على ثُبُوت غَيره
وَأما الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فحاصلها إِدْخَال كَلَام الساهي والنائم والطيور وَنَحْو ذَلِك وفائدتها من الْفُرُوع اسْتِحْبَاب سُجُود التِّلَاوَة عِنْد قِرَاءَة هَؤُلَاءِ إِلَّا أَن كَلَام أَصْحَابنَا مشْعر بِعَدَمِ الِاسْتِحْبَاب فِي الْجَمِيع وَمن فَوَائده أَيْضا مَا إِذا حلف أَنه لَا يكلم زيدا وَقد ذكره الرَّافِعِيّ فِي أَوَاخِر تَعْلِيق الطَّلَاق فَقَالَ إِن هذى فَكَلمهُ نَائِما أَو مغمى عَلَيْهِ لم يَحْنَث وَإِن كَلمه مَجْنُونا فَفِيهِ خلاف وَالظَّاهِر تَخْرِيجه على الْجَاهِل وَنَحْوه وَإِن كَانَ سَكرَان حنث فِي الْأَصَح إِلَّا إِذا انْتهى إِلَى السكر الطافح
هَذَا كَلَامه وَالتَّفْصِيل بَين الطافح وَغَيره طَريقَة للْإِمَام وَالْغَزالِيّ ارتضاها الرَّافِعِيّ تَارَة وردهَا تَارَة أُخْرَى
1 / 198
وَأما الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة فينبني عَلَيْهَا أَيْضا مَا إِذا حلف لَا يتَكَلَّم فَقَالَ مثلا النَّار حارة وَالسَّمَاء فَوق الأَرْض وَنَحْو ذَلِك وَيُؤَيّد عدم تَسْمِيَته كلَاما عندنَا أَنه إِذا قَالَ وَالله لَا أصعد السَّمَاء فَإِن يَمِينه لَا تَنْعَقِد على الصَّحِيح كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْأَيْمَان وَفَائِدَته أَن الْحَالِف على أَن لَا يحلف لَا يَحْنَث بذلك فترجيحهم عدم الِانْعِقَاد مَعَ تَأْكِيد النِّسْبَة بِالِاسْمِ الْمُعظم إِلْحَاق للَّذي أَتَى بِهِ بِعَدَمِ الْكَلَام بِالْكُلِّيَّةِ
مَسْأَلَة
كَمَا يُطلق الْكَلَام فِي اللُّغَة على اللَّفْظ يُطلق أَيْضا على الْمعَانِي النفسانية وَالصَّحِيح فِي الارتشاف وَغَيره أَنه إِطْلَاق مجازي وَقيل مُشْتَرك بَينهمَا وَحكى غَيره قولا ثَالِثا أَنه حَقِيقَة فِي النفساني دون اللساني
إِذا علمت ذَلِك فَمن فروع الْمَسْأَلَة إِذا حلف لَا يتَكَلَّم أَو لَا يقْرَأ أَو لَا يذكر فَإِنَّهُ لَا يَحْنَث إِلَّا بِمَا يتَكَلَّم بِهِ بِلِسَانِهِ دونما مَا يجريه على قلبه
وَمِنْهَا قَالُوا فِي حد الْغَيْبَة انها ذكر الشَّخْص بِمَا يكرههُ ثمَّ قَالَ الْغَزالِيّ فِي الْإِحْيَاء وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فِي الْأَذْكَار أَنَّهَا تحصل بِالْقَلْبِ كَمَا تحصل بِاللَّفْظِ
1 / 199
وَمِنْهَا اخْتِلَاف أَصْحَابنَا فِي قَوْله ﵊ فَإِذا كَانَ يَوْم صِيَام أحدكُم فَلَا يرْفث وَلَا يجهل فَإِن امْرُؤ شاتمه أَو قَاتله فَلْيقل إِنِّي صَائِم هَل يَقُول بِقَلْبِه أَو لِسَانه فِيهِ وَجْهَان جزم الرَّافِعِيّ بِالْأولِ فَقَالَ قَالَ الْأَئِمَّة كَذَا وَكَذَا وَمَعْنَاهُ أَنه يذكر نَفسه بذلك لينزجر فَإِنَّهُ لَا معنى لذكره بِاللِّسَانِ إِلَّا إِظْهَار الْعِبَادَة وَهُوَ رِيَاء وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي الْأَذْكَار وَفِي لُغَات التَّنْبِيه أظهر الْوَجْهَيْنِ أَنه يَقُول بِلِسَانِهِ وَقَالَ فِي شرح الْمُهَذّب إِنَّه الْأَقْوَى قَالَ فَإِن جمع بَينهمَا فَحسن وَقَالَ إِنَّه يسْتَحبّ تكراره مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا لِأَن ذَلِك أقرب إِلَى إمْسَاك صَاحبه عَنهُ
وَحكى الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر وَجها وَاسْتَحْسنهُ انه إِن كَانَ صَوْم رَمَضَان فَيَقُول بِلِسَانِهِ وَإِن كَانَ نفلا (فيقوله بِقَلْبِه) وَحذف فِي الرَّوْضَة مَا نَقله الرَّافِعِيّ (عَن الْأَئِمَّة) فِي الْمَسْأَلَة
1 / 200
وَمِنْهَا صِحَة النّذر بِدُونِ لفظ (بل بِالنِّيَّةِ وَحدهَا) فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا عدم الصِّحَّة
مَسْأَلَة
يُطلق الْكَلَام أَيْضا على الْكِتَابَة وَالْإِشَارَة وَمَا يفهم من حَال الشَّيْء إِلَّا أَن الصَّحِيح كَمَا قَالَه فِي الارتشاف أَنه إِطْلَاق مجازي وَلَيْسَ من بَاب الِاشْتِرَاك إِذا علمت ذَلِك فَمن فروع الْمَسْأَلَة مَا إِذا حلف لَا يكلمهُ فكاتبه أَو أَشَارَ إِلَيْهِ فَإِن فِيهِ قَوْلَيْنِ مشهورين أصَحهمَا عدم الْحِنْث لما ذَكرْنَاهُ
وَمِنْهَا من لَهُ زوجتان إِذا قَالَ إِحْدَاهمَا طَالِق وَأَشَارَ إِلَى واجدة مِنْهُمَا فَإِن الطَّلَاق يَقع عَلَيْهَا كَمَا ستعرفه بعد هَذَا فِي أثْنَاء كَلَام ننقله عَن الرَّافِعِيّ
وَمِنْهَا إِذا كَانَ قَادِرًا على النُّطْق فَكتب زَوْجَتي فُلَانَة طَالِق وَلم ينْو فَالصَّحِيح أَن الطَّلَاق لَا يَقع فَإِن نوى فوجوه أَصَحهَا وُقُوعه
وَثَالِثهَا يَقع من الْغَائِب دون الْحَاضِر وَيجْزِي بِمَا ذَكرْنَاهُ جَمِيعه فِي البيع وَنَحْوه
وَاعْلَم أَنا حَيْثُ شرطنا النِّيَّة هَهُنَا فَالْقِيَاس اشْتِرَاطهَا فِي جَمِيع اللَّفْظ الَّذِي لَا بُد مِنْهُ لَا فِي لفظ الطَّلَاق خَاصَّة لأَنا إِنَّمَا اشترطنا النِّيَّة فِيهِ لكَونه غير ملفوظ بِهِ لَا لانْتِفَاء الصراحة فِيهِ وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي الْجَمِيع وَحِينَئِذٍ فينوي الزَّوْجَة حِين يكْتب زَوْجَتي وَالطَّلَاق حِين يكْتب
1 / 201
طَالِق فَلَو كَانَ لَهُ زوجتان فَإِن عين وَاحِدَة بِقَلْبِه فَلَا كَلَام وَإِن لم يعين نظر إِن انْتَفَى التَّعْيِين فِي خطه أَيْضا عين بعد ذَلِك مَا أَرَادَ مِنْهُمَا وَإِن عين فِي الْخط فَالْقِيَاس أَنه لَا بُد أَن يَنْوِي الْمعينَة أَيْضا عِنْد كتَابَتهَا فَإِن لم ينوها فَلَا أثر لتعيينها بالخط نعم حكى الرَّافِعِيّ وَجْهَيْن من غير تَرْجِيح فِيمَن لَو كَانَ لَهُ زوجتان فَقَالَ امْرَأَتي طَالِق وَأَشَارَ إِلَى احداهما ثمَّ قَالَ أردْت الآخرى
أَحدهمَا يقبل ذَلِك مِنْهُ وَالثَّانِي لَا بل تطلقان فَيتَّجه جَرَيَان الْوَجْهَيْنِ هُنَا لِأَن التَّعْيِين بالخط لَا يتقاعد عَن الْإِشَارَة وَقد علم من كَلَام الرَّافِعِيّ هُنَا أَن الْإِشَارَة إِذا لم يعارضها شيءيؤخذ بهَا وَهَذَا هُوَ الْكَلَام الَّذِي سبق فِي الْمِثَال السَّابِق الْوَعْد بِذكرِهِ
فصل فِي الْمُضْمرَات
مَسْأَلَة
الضَّمِير إِذا سبقه مُضَاف ومضاف إِلَيْهِ وَأمكن عوده على كل مِنْهُمَا على انْفِرَاد كَقَوْلِك مَرَرْت بِغُلَام زيد فأكرمته فَإِنَّهُ يعود على الْمُضَاف دون الْمُضَاف إِلَيْهِ لِأَن الْمُضَاف هُوَ الْمُحدث عَنهُ والمضاف إِلَيْهِ وَقع ذكره بطرِيق التبع وَهُوَ تَعْرِيف الْمُضَاف أَو تَخْصِيصه كَذَا ذكره أَبُو حَيَّان فِي تَفْسِيره وَكتبه النحوية وأبطل بِهِ اسْتِدْلَال ابْن حزم وَمن نحا نَحوه كالماوردي فِي الْحَاوِي على نَجَاسَة
1 / 202
الْخِنْزِير بقوله تَعَالَى ﴿أَو لحم خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْس﴾ حَيْثُ زَعَمُوا أَن الضَّمِير فِي قَوْله تَعَالَى فَإِنَّهُ يعود إِلَى الْخِنْزِير وعللوه بِأَنَّهُ أقرب مَذْكُور إِذا علمت ذَلِك فَمن فروع الْمَسْأَلَة مَا إِذا قَالَ لَهُ عَليّ الف دِرْهَم وَنصفه فَالْقِيَاس أَنه يلْزمه ألف وَخَمْسمِائة لَا ألف وَنصف دِرْهَم وَهَكَذَا القَوْل فِي الْوَصَايَا والبياعات والوكالات والإجازات وَغَيرهَا من الْأَبْوَاب
مَسْأَلَة
من الْمُضْمرَات أَنْت بِفَتْح التَّاء فِي الْمُذكر وَكسرهَا فِي الْمُؤَنَّث وَاخْتلفُوا فَقَالَ الْفراء جَمِيعه هُوَ الضَّمِير وَقَالَ ابْن كيسَان الِاسْم مِنْهُ التَّاء فَقَط وَهِي التَّاء الَّتِي فِي فعلت وَلَكِن زيد مَعهَا أَن تكثيرا للفظ وَاخْتَارَهُ أَبُو حَيَّان وَذهب جمهود الْبَصرِيين إِلَى الْعَكْس فَقَالُوا الِاسْم هُوَ أَن وَالتَّاء حرف خطاب وَفَائِدَة الْخلاف فِيمَا لَو سمي بِهِ فَعِنْدَ الْفراء يعرب وَعند غَيره يحْكى لكَونه مركبا من اسْم وحرف كَذَا جزم بِهِ فِي الارتشاف
1 / 203
وَرَأَيْت فِي شرح ابْن بابشاذ للجمل مَا يُخَالف ذَلِك فَإِنَّهُ لما تكلم على تفعلين وَقَالَ أَن الْيَاء فِيهِ اسْم عِنْد سِيبَوَيْهٍ وحرف يدل على التَّأْنِيث عِنْد الْأَخْفَش قَالَ فَلَو سمي بِهِ فَإِنَّهُ يحْكى عِنْد سِيبَوَيْهٍ ويعرب عِنْد الأخفس إِذا لم يسم بِهِ مَعَ الضَّمِير هَذَا كَلَامه مَعَ كَونه مركبا من فعل وحرف وَهُوَ بالحكاية أولى وذكرته للشَّيْخ فِي وَقت فسلمه وَقَالَ إِذا قُلْنَا بالإعراب فيعرب إِعْرَاب مَا لَا ينْصَرف للعلمية وَشبه العجمة لِأَنَّهُ لَا نَظِير لَهُ فِي كَلَام الْعَرَب وَذهب بعض الْمُتَقَدِّمين فِي أَنْت إِلَى قَول عَجِيب لَا أصل لَهُ وَهُوَ أَنه مركب من الف أقوم وَنون نقوم وتاء تقوم وَقَالَ فِي أَنا انه مركب من الْألف وَالنُّون المذكورتين إِذا علمت ذَلِك فقد ذكر فِي الارتشاف وَغَيره أَنه قد يشار إِلَى الْمُؤَنَّث بِإِشَارَة الْمُذكر على إِرَادَة الشَّخْص وَعَكسه كَذَلِك أَيْضا بِتَقْدِير الذَّات أَو التَّسْمِيَة وَنَحْوهمَا وَمثله الضَّمِير وَمن فروع الْمَسْأَلَة ماإذا قَالَ
1 / 204
لامْرَأَة زَنَيْت بِفَتْح التَّاء أَو لرجل زَنَيْت بِكَسْرِهَا فَإِنَّهُ يكون قذفا كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ فِي أَوَائِل اللّعان قَالَ وَكَذَا زَانِيَة للرجل وزان للْمَرْأَة على الْمَشْهُور وَفِيه قَول قديم انْتهى وَقِيَاس الطَّلَاق وَالْعِتْق وَنَحْوهمَا على مَا ذَكرْنَاهُ وَاضح
مَسْأَلَة
ضمير الْغَائِب قد يعود على غير ملفوظ بِهِ كَالَّذي يفسره سِيَاق الْكَلَام فَمن فروع الْمَسْأَلَة مَا إِذا قَالَ عَليّ دِرْهَم وَنصفه فَإِنَّهُ يلْزمه دِرْهَم كَامِل وَنصف وَالتَّقْدِير كَمَا قَالَه ابْن مَالك وَنصف دِرْهَم آخر إِذْ لَو كَانَ عَائِدًا إِلَى الْمَذْكُور لَكَانَ يلْزمه دِرْهَم وَاحِد وَيكون قد أعَاد النّصْف تَأْكِيدًا وَعطفه لتغاير الْأَلْفَاظ
وَمِنْهَا لَو قَالَ الزَّوْج امْرَأَته طَالِق وعنى نَفسه قَالَ الرَّافِعِيّ فَفِي وُقُوع الطَّلَاق احْتِمَالَانِ حَكَاهُمَا القَاضِي شُرَيْح الرَّوْيَانِيّ عَن جده أبي الْعَبَّاس زَاد فِي الرَّوْضَة فَقَالَ أرجحهما الْوُقُوع
مَسْأَلَة
الضَّمِير الْمَرْفُوع للْوَاحِد الْمُتَكَلّم تَاء مَضْمُومَة وللمخاطب تَاء مَفْتُوحَة إِذا تقرر هَذَا فَمن فروع الْمَسْأَلَة مَا إِذا قَالَ البَائِع بِعْتُك أَو الْوَلِيّ
1 / 205