لقد سقط الرجل في خندق واحد مع مرآة ذاته، كان ينادي على زملائه الرجال من أجل إنقاذه، لكن النساء حوطته بسياج منيعة لا يخترقها أحد إلا بتصريح من مجموعة الحراسة، وتضاعفت عليه الآلام، والأشباح تراءت له بعنف أكبر، نخرت الأرواح الشريرة جسده وروحه، كاد كيانه يتلاشى، كادت نيران منبعثة من بطن الأرض بأن تقضي عليه، كان جسده يتمزق ويحترق جلده حتى نهايته ثم يعود من جديد، ليحترق في النار ذاتها أو نار جديدة تشتعل، ينفخها الهواء حتى تصير لسانا من اللهب، وهو يتبعثر أشلاء، يشتته اليأس وأسئلة عديدة تغزو دماغه ، تترك في رأسه كتلة لزجة محترقة، تذوب وتتلاشى كالرماد ثم تعود من جديد.
وفي يوم تعالت صرخة من أحشائه كأنما قادمة من بطن الأرض، كان يخاطب ربه من تحت النيران: يا إلهي، لماذا تركتني وحدي؟ يا إلهي: لماذا وضعت الشهوة في جسدي وتركتني؟ لماذا لم تضع حدودا لسلوكي؟ يا إلهي: لماذا سمحت لي أن أكون قاسيا وظالما للنساء؟! وتركتني كالبهيمة أنتقل من امرأة إلى امرأة؟!
كان الرجل يرهف أذنيه ليسمع إجابة الرب عليه، وحين هدأت النيران قليلا كان رأس الرجل يصفو شيئا فشيئا، حتى بدأت ذاكرته تصحو، وفجأة رأى نفسه طفلا في العاشرة من عمره، كعمر حميدة، وكان يسمع كل يوم صراخ أمه حين يضربها أبوه، ولطالما سمع نحيبها في الليل ونشيجها، حين هجرها أبوه إلى زوجة أخرى، عاوده الألم الذي كان يجثم على صدره الطفولي، يمزق قلبه ويسبب له آلاما وأحزانا.
مرت بذاكرته مشاعر الغضب حين كانت صرخات أمه تخترق أذنيه وعظام رأسه قبة السماء، وتهبط إليه مرة أخرى مع نحيبها لتخترق جسده ودماغه وقلبه.
لقد توقف قلب الطفل عن الخفقان، وتعالى من أحشائه عواء خوف غامض من أبيه، ودار حجر رحى خوفه فدفنه تحته، بدا له أن تخلص من الخوف الدفين في قلبه منذ كان طفلا.
مرت أيام قليلة ثلاثة أو أربعة دون أن يتحرك أو يأكل أو يشرب ماء، كان مشغولا مبهورا بتلك القدرة الجديدة المنبعثة من أعماقه، والتي جعلته يدفن الحجر من تحت جسده دون أن يطرف له جفن.
في اليوم التالي عاد إلى نفسه، كان وجهه قد تغير، وجسده تغير، وطلب من النساء أن يرى حميدة، تقدمت نحوه الطفلة بخطوات مترددة وجلة ترافقها زميلاتها والنساء من الحارسات، توقفت على مسافة بعيدة منه وإن سمعت صوته يقول: أرقد أمامك عاريا، غارقا في عفونة عاري الذي جلبته لك، فأصبح شقاؤك هو شقائي، وجراحك هي جراحي، أخبريني ماذا أفعل كي أخلصك من الألم والحزن، وأرد إلى عينيك البهجة وضوء الشمس.
اقتربت الطفلة منه، حيث أمكنها النظر مباشرة في عينيه، طلبت من النساء تغطية عورته وقالت: نظف نفسك من نفايات نفسك القديمة، ثم اذهب وحيدا في الصحراء، واجمع أشلاء نفسك الجديدة المبعثرة، وحين ترى أن الوقت قد حان فارجع إلى إخوانك الرجال وأخبرهم بمعرفتك الجديدة، فإن الرجال النبلاء هم القادرون على تحمل مسئولية أفعالهم، وهم الوحيدون الذين يمكنهم تجاوز الحدود التي وضعت لهم عندما كانوا في سن الطفولة، ارجع وحدث إخوانك الرجال عن آلامك وأنت طفل حين كنت تدفع عن أمك الظلم، كيف نسيت هذه الآلام في سن الرجولة، وبدأت تشعر بالعار من أمك، حدثهم عن الظلم والقسوة والعار الحقيقي، تحمل نظراتهم الساخرة أو لكماتهم، تحمل كلامهم وإن اتهموك بالضعف أو الجنون أو فقدان الرجولة، كن أمينا لقلبك الجديد، ومعرفتك الجديدة، وإن كان ثمن ذلك هو حياتك، ادخل هذه المعركة المقدسة مع إخوانك وأقاربك وجيرانك وأولادك، معركة بدون إسالة الدماء؛ لأن العدل سيتغلب في ذلك الوقت على الظلم.
وكانت السماء تسمع صوت حميدة، وقالت النساء: «السكوت علامة الرضا.»
عالم جديد ممكن
Page inconnue