القاهرة 24 يونيو 2002
بعد أن رأيت ذاتك في المرآة
كان صباحا مظلما بشبورة كثيفة تحجب الشمس والسماء ورءوس الأشجار، وأسطح بيوت القرية يتراكم فوقها الحطب والجلة وزلع الجبنة الحادقة والمش، ومخلل الليمون والزيتون الأخضر.
إنه صباح العيد بعد شهر رمضان وأنت راقد في الفراش الدافئ فوق الفرن، تخفي رأسك تحت العباءة الصوفية الرمادية المهترئة، لا تفارق هذه العباءة جسدك في الشتاء منذ نصف قرن، منذ كنت شابا في العشرين قويا مفتول الساعدين، مفتول الشارب الأسود الكثيف الشعر، الممدود من صدغك الأيمن إلى الأيسر، المبروم والمقوس إلى الخارج يمكن أن يقف عليه الصقر.
لماذا كنت تخفي رأسك تحت العباءة؟ لماذا لم تنضم في وجبة الفطور إلى أسرتك الكبيرة العدد، أولادك وبناتك وأحفادك وحفيداتك، لا تكاد تعرف عددهم أو أسماءهم، إلا واحدة وهي حفيدتك حميدة الطفلة الشقية المرحة المليئة بالبهجة والأمل.
في صباح ذلك اليوم جاءت حميدة إلى الفطور، لكنها لم تكن مرحة كعادتها، لم تكن فرحة أو متألقة.
ولاحظت أمها أن حميدة ليست هي حميدة التي عرفتها منذ أن ولدتها منذ عشرة أعوام كاملة، بالضبط ليلة العيد من عام 1991، بعد موت أخيها الأكبر في حرب الخليج، لقد رزقها الله بهذه الطفلة المتأججة بالحياة والذكاء عوضا عن الابن الذي راح إلى الحرب ولم يعد.
وهمست الأم في أذن ابنتها: ما لك يا حميدة ساكتة؟
ولأول مرة في حياتها تطرق الابنة برأسها ولا تنطق بكلمة واحدة، هي التي لم تكن تكف عن الكلام والضحك واللعب مع الأطفال.
كأن ظلا أسود قاتما يطل من أعماقها، وهي جالسة تضم ركبتيها ، تتقوقع حول جسدها الصغير في ركن بعيد عن العيون، تحملق في الفراغ دون حراك.
Page inconnue