أمامي الجريدة باللغة العربية تعلن أننا حققنا نصرا عظيما في المفاوضات مع الرئيس الأمريكي، وأمامي الصحف بلغات أخرى تقول إن لا شيء تغير في الموقف الأمريكي، وأن «بوش» يرفض الالتزام بأي جدول زمني لنشوء الدولة الفلسطينية، وأنه يستمر في الرؤية المغلوطة؛ التي تجعل الضحية المقتولة من الشعب الفلسطيني هي الجانية الإرهابية المسئولة عن العنف، وأن أرييل شارون (رئيس الحكومة الإسرائيلية والمذابح الكبرى) لا يفعل شيئا إلا حماية الأمن والمطالبة بالسلام.
في الصور الداخلية نرى الدبابات تجتاح المدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، تهدم البيوت وتقتل النساء والرجال والشباب والأطفال، تدفنهم أحياء في قبور جماعية، ويرفض شارون قرار مجلس الأمن بالتحقيق في هذه المذابح، ويعلن «بوش» براءة «شارون» دون تحقيق، ويوجه الإدانة إلى الأطفال والبنات الفلسطينيات اللائي يفجرن أجسادهن بالديناميت من شدة الغيظ والكمد.
ويمتد الغيظ والكمد إلي وأنا جالسة في بيتي في القاهرة، يزيد منه القيظ في يونيو، والإحساس بالعجز في مواجهة السلاح الأمريكي والإسرائيلي النووي، كيف تحولت دولة إسرائيل إلى ترسانة نووية، وكيف تحولت بلادنا إلى شعوب يائسة تعاني الفقر والبطالة، لا تتغذى إلا بمكبرات الصوت، تنقل الخطب السياسية والدينية؟
أليست هي سياسة الحكومات المتتالية في بلادنا تحت الرعاية الأمريكية؟! وأين هي المعارضة أو الأحزاب الأخرى غير الحكومية؟ هل عادت إلى بطن الحكومة كما خرجت منها منذ ربع قرن؟ وهل يمكن للغازات المسيلة للدموع أن تقضي على الثورات الشعبية؟!
تطالعني الأنباء في الصحف وأنا أكتب هذه الكلمات، أقاوم الحزن كلما تطلعت إلى وجوه الشباب والشابات في بلادنا، آلاف العقول المعطلة بلا عمل، بلا فكر ولا إبداع ولا أمل، إلا الهجرة إلى بلاد غنية بالنفط أو الهامبورجر، آلاف الرءوس المحجبة والعقول، والعيون المتطلعة إلى بارقة أمل دون جدوى، وأدرك الصلة الوثيقة بين الحجاب الديني والسياسي، وبين الختان العقلي والجسدي، وبين القوى المحلية والدولية، وبين الاستعمار القديم والجديد، وتلك الكلمة المتداولة حديثا «العولمة»، وكم من كلمات جديدة للتغطية على الحقيقة المؤلمة، كم من كلمات غامضة مراوغة مزدوجة المعاني، توحي بالتقدم نحو الإنسانية العالمية ثم تأخذنا إلى الوراء لنعاني المزيد من الفقر والقهر تحت نير الفتن والحروب العسكرية والدينية.
تلعب العولمة الحديثة دورا مزدوجا، فهي تكسر الحواجز بين البلاد من أجل تسهيل التجارة الحرة في السوق، وهي حرية العبيد في الخضوع لأصحاب المال والسلاح والإعلام، حرية الدول الإرهابية النووية في قلب الحقائق، وإخفاء الصراعات حول المال والنفط والأنابيب والتجارة بأجساد النساء والأطفال، تفوقت أرباح التجارة العالمية بالدعارة الجنسية، وزادت عن سبعة ملايين دولار أمريكي سنويا، حسب تقارير الأمم المتحدة لعام 2000 (Refugees-UN-HCR-vol, 2. no. 119, 200)
تساوت أرباح الرأسمالية الدولية من بيع الكتب الدينية والأحجبة النسائية مع أرباح بيع أدوات الزينة والكحل والرموش والأعضاء الجنسية الصناعية والأفلام الأمريكية والعقاقير المخدرة.
أصبحت أجساد البنات الصغيرات مثل السمك أو اللحم المعلب في سوق العولمة الرأسمالية، تقوم الدول العظمى والشركات الكبرى عابرة القارات بدور «القواد» في الماضي القريب، وتشحن البنات الفقيرات من أجل الخدمة في البيوت أو الإمتاع الجنسي للذكور الكهول الأثرياء، الذين ينفقون أموالهم في شراء حبوب الفياجرا أو غيرها، ارتفعت أرباح العولمة الرأسمالية مثل النساء، وإن اختلفت شكل أو درجة المعاناة، ويمرض الرجال بالقلق لفقدان الانتصاب الجنسي، بمثل ما تمرض النساء من انقطاع الطمث، هذا فيما يخص رجال ونساء الطبقات الوسطى العليا، أما الرجال والنساء من الطبقات الدنيا فلا شيء يشغلها إلا البحث عن عمل يسد الرمق.
ويلعب الإعلام العولمي دوره في إخفاء الحقيقة، وتحويل الصراعات حول ماديات الحياة إلى صراعات روحانية بين الأديان أو بين الحضارات، يروج لها المفكرون والصحفيون من أتباع الرأسمالية المحلية والدولية، وكيف يمكن لجماهير القراء في مختلف البلاد أن يخترقوا هذه العبارات المتراكمة من الكذب والالتواء، وهذه الكلمات المراوغة غير المحددة المعنى، مثل إعلان الرئيس الأمريكي «بوش» عن إنشاء دولة فلسطينية دون تحديد متى وأين تكون هذه الدولة، وكأنما هي مجرد قصر يبنى في الهواء، أو في جنة الخلد، هذا الخداع المزمن منذ نشوء العبودية لإقناع المقهورين والمقهورات بالتعويض عن آلامهم فيما بعد الموت.
إنه الأمل الكاذب أو الوهم، ويختلف عن الأمل الحقيقي الذي ينبع من العقل والوعي، وإبداع الأفكار والوسائل لمقاومة الاستغلال والخداع والقهر.
Page inconnue