وإذا بفكري يتقمص انطلاقة جديدة دافعها الأول الحزن العميق، قلت لنفسي حقا أن حياتنا تزخر بالآلام والسلبيات، ولكنها في جملتها ليست إلا النفايات الضرورية التي يلفظها البناء الضخم في شموخه، وأنها يجب ألا تعمينا عن العظمة في تولدها وامتدادها. هل عرفنا ما كان يعانيه ساكن الحارة في القاهرة عندما كان صلاح الدين يحقق انتصاره الحاسم على الصليبيين؟ هل تخيلنا آلام أهل القرى عندما كان محمد علي يكون إمبراطورية مصرية؟ هل تصورنا عصر النبوة في حياته اليومية والدعوة الجديدة تفرق بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، والزوج وزوجته، تمزق العلاقات الحميمة وتحل العذاب مكان التقاليد الراسخة؟ وبالمثل ألا يستحق إنشاء دولتنا العلمية الاشتراكية الصناعية التي تملك أكبر قوة في الشرق الأوسط، ألا تستحق أن نتحمل في سبيلها تلك الآلام؟! وكنت أشعر طيلة الوقت بأنه يمكن أن أقنع نفسي بضرورة الموت وفائدته بمثل هذا المنطق. •••
وما ندري ذات أصيل إلا والوجوه الغائبة المفتقدة تهل علينا بفرحة مباغتة، زينب دياب، وإسماعيل الشيخ، وحلمي حمادة، وبضعة نفر آخرين، أما البقية فلم نر لها أثرا بعد ذلك. هللنا مرحبين، حتى زين العابدين عبد الله اشترك معنا، أما قرنفلة فتراخت في جلستها كأنما غفت أو أغمي عليها، لم تنطق بحرف ولم تتحرك، حتى مثل أمامها حلمي حمادة، فقالت له بصوت متهدج: سأنتقم منك!
ثم أجهشت في البكاء، وسأل سائل: أين كنتم يا جماعة؟
فأكثر من صوت أجاب: في نزهة.
وضجوا بالضحك، وعاد المرح ولكن الوجوه تغيرت، فالرءوس الحليقة أضفت على السحن غرابة، فضلا عن ذبول واضح في النظرة والحيوية. وتساءل صوت - لعله زين العابدين - قائلا: ولكن كيف حدث ما حدث؟
فصاح إسماعيل الشيخ: دعونا من هذه السيرة.
وهتفت زينب في غبطة: سلمى يا سلامة، رحنا وجينا بالسلامة.
وسمعت اسما يتردد، لا أدري كيف تردد، ولا من كان أول ناطق به، خالد صفوان ... خالد صفوان ... ولكن من هو خالد صفوان؟ ... محقق؟! ... مدير سجن؟! ... أكثر من صوت يردد: خالد صفوان ... وكنت أختلس من الوجوه النظرات، وأكاد ألمس المعاناة، والذهول وراء الأقنعة. وممكن أن أقول إن الحياة في الكرنك استعادت روتينها اليومي، ولكنها في الواقع فقدت قدرا لا يستهان به من صميم روحها. أسدل ستار كثيف على فترة الغياب المجهولة، فمضت كسر مثير تحوم حوله الأسئلة وترتد خائبة. ورغم المرح والأحاديث انتشر الحذر في الجو مثل رائحة غريبة مجهولة المصدر، وتحملت كل نكتة بأكثر من معنى، وكل إشارة أكثر من مغزى، وكل نظرة التبست فيها البراءة بالتوجس، وقالت لي قرنفلة: الأولاد عانوا كثيرا.
فسألتها بلهفة: هل قال لك شيئا؟ - إنه لا يتكلم وفي ذلك ما يكفي.
أجل، في ذلك ما يكفي. نحن في زمن القوى المجهولة وجواسيس الهواء وأشباح النهار. وجعلت أتخيل وأتذكر، تذكرت ملاعب الرومان ومحاكم التفتيش وجنون الأباطرة. تذكرت سير المجرمين وملاحم العذاب وبراكين القلوب السود ومعارك الغابات. وقلت لنفسي مستعيذا من ذكرياتي إن الدناصير استأثرت بالأرض ملايين السنين، ثم هلكت في ساعة من الزمان في صراع الوجود والعدم، فلم يبق منها اليوم إلا هيكل أو هيكلان. وعندما يلفنا الظلام أو تسكرنا القوة أو تطربنا نشوة تقليد الآلهة؛ فإنه يستيقظ في أعماقنا تراث وحشي، ويبعث فينا العصور البائدة. وظلت معلوماتي ترتكز على الخيال حتى أتيح لي بعد ذلك بسنوات أن تفتح لي القلوب المغلقة في ظروف جد مختلفة، وتمدني بالحقائق المرعبة، وتفسر لي ما غمض علي فهمه من الأحداث في إبان وقوعها.
Page inconnue