Quel est l'âge de la colère ? : Structure et crise de la pensée arabe
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
Genres
كانت فكرة «السير على درب عبد الناصر» هي إذن الوحيدة الممكنة في تلك الفترة الأولى، مهما كان الاتجاه الحقيقي الذي تسير فيه نوايا الرئيس الجديد وخططه، ولكن بعد حركة مايو 1971م، التي تخلص فيها السادات بضربة واحدة من خصومه الذين شكلوا «جناحا آخر» مناوئا له، طوال الشهور السبعة الأولى من حكمه، بعد هذه الحركة أصبح للرئيس الجديد من حرية الحركة ما يسمح له بأن يبدأ تطبيق أفكاره الخاصة. ولكن الحكمة كانت تقتضي أن يسير كل شيء بتدرج شديد، بحيث يبدو في أول الأمر أن كل شيء سيظل على حاله، ثم تطرح الأفكار الجديدة بصورة عابرة في البداية؛ لمجرد التمهيد، وبعد ذلك يبدأ الإلحاح تدريجيا على هذه الأفكار القديمة، ومن الممكن أن تظل هذه معايشة للأفكار القديمة وقتا ما، ولكن هذه الأخيرة تذبل شيئا فشيئا، إلى أن يتبلور الاتجاه الجديد، ويحتل الميدان وحده، في نهاية الأمر. كل شيء إذن ينبغي أن يتم ببطء، وحذر، وتدرج، ولكن الهدف واضح، ومحدد مقدما، وهو تحويل الاتجاه السياسي في مصر تحويلا جذريا، ولا بأس من الاستشهاد، في عملية التحويل هذه، بعبد الناصر على الدوام، وخاصة إذا كان ذلك على صورة حديث خاص أو أقوال أدلى بها لهذا الشخص أو ذاك، ما دام الموتى لا يستطيعون التكذيب، فالاستعانة بعبد الناصر في عملية التحول ضد سياسة عبد الناصر، هي أسلم الوسائل وأضمنها لتحقيق التغيير المطلوب بهدوء وسلاسة، بحيث لا يشعر الناس به إلا بعد أن يكون قد تم.
في هذا التحول المخطط، المرسوم بذكاء وبراعة، كان من الطبيعي أن يكون للجهاز الإعلامي، الذي يتربع على قمته هيكل، دور أساسي؛ إذ إن الإعلام هو الذي يهيئ عقول الناس للتغيير، وهو الذي يمهد الطريق للسياسات المرسومة، ولو تتبع المرء خط السير الذي سلكته كتابات هيكل في هذه الفترة لوجد المخطط المرسوم للتحول ينفذ فيها ببراعة هائلة، وبتدرج بطيء ولكنه محدد الاتجاه، ولتبين له أن عملية تهيئة الأذهان للتغيير قد ألقيت على عاتق هيكل، الذي اضطلع بها بكفاءة عالية.
فما هو هذا التغيير الذي كان يراد في السياسة المصرية؟ كانت هذه السياسة، في السنوات الواقعة بين هزيمة 1967م وموت عبد الناصر في سبتمبر 1970م، تتلخص في الاعتماد المتزايد على المساعدة السوفييتية، اقتصاديا وعسكريا بوجه خاص، ولم يكن هناك مفر، في ظروف تلك الفترة، من سلوك هذا السبيل؛ ذلك لأن أمريكا كانت، قبل حرب 67 وبعدها، قد انحازت كلية لإسرائيل، وكانت شحنات الأسلحة المرسلة إليها، والتي زادتها قوة على قوتها الأصلية، تستهدف منذ ذلك الحين أن تصبح إسرائيل متفوقة عسكريا على الدول العربية مجتمعة، وكان الحل الوحيد هو الاعتماد على الطرف المضاد في الصراع العالمي من أجل الحصول على أسلحة تعوض التفوق الإسرائيلي. وهكذا خلقت ظروف الفترة نفسها، والهدف الذي حددته السياسة المصرية لنفسها فيها، وهو إزالة آثار العدوان، خلقت وضعا يحتم مواجهة السلاح الأمريكي المتدفق على إسرائيل بسلاح سوفييتي، دون أن يعني ذلك، بأي حال، انحياز مصر كليا أو جزئيا إلى المعسكر الشيوعي، ولذا شاع عندئذ استخدام تعبير «الصداقة» في وصف العلاقات المصرية السوفييتية، وتعبير «الاتحاد السوفييتي الصديق»، وكان ذلك يقتضي في المقابل زيادة حدة اللهجة المعادية لأمريكا، ومع ذلك فإن السياسة الرسمية لم تغلق أبواب الاتصالات مع أمريكا، بوصفها قوة عظمى ينبغي أن يعمل لها حساب، وإن كان الأمل في ممارستها ضغطا على إسرائيل من أجل الانسحاب كان في هذه الفترة شبه مفقود. وفي السنة الأخيرة من حياة عبد الناصر ازداد الحضور السوفييتي في مصر، للرد على الغارات الإسرائيلية التي كانت قد توغلت إلى أعماق البلاد، وعندما زار عبد الناصر موسكو سرا في يناير 1970م، كان هو نفسه الذي طلب حضور السوفييت للدفاع عن العمق المصري عن طريق الصواريخ المضادة للطائرات، ووافق السوفييت بعد تردد، وكان حضورهم هو الذي أوقف الغارات الإسرائيلية على الأهداف المدنية في مصر، ولولا ذلك لشهدت المدن المصرية تخريبا واسع النطاق.
كانت هناك إذن حاجة حيوية إلى وجود السوفييت وإلى الأسلحة السوفييتية، يقابلها تصعيد متزايد للهجة العداء ضد الولايات المتحدة. وعندما اعتلى السادات الحكم، كان من الطبيعي أن يواصل السير، أول الأمر، في هذا الطريق، لا سيما وأن الوجود السوفييتي كان حتى ذلك الحين ضرورة حيوية لحماية الأهداف المدنية في مصر، ولكن السياسة المرسومة، في المدى الطويل، كانت هي التباعد التدريجي عن السوفييت، وطرح فكرة إمكان التفاهم مع أمريكا، ثم الدعوة إلى الكف عن معاداة أمريكا؛ لأن من الممكن «تحييدها» في الصراع العربي الإسرائيلي، وبالتدريج تتهيأ العقول للنتيجة المطلوبة، أعني إنهاء الوجود السوفييتي في مصر، وهو المطلب الأساسي لأمريكا، بحجة أنه يساعد على عملية «التحييد» هذه، وعندما يطمئن الأمريكيون إلى أنهم قد أصبحوا وحدهم في الساحة، وهم وحدهم حلفاء الطرفين المتنازعين، العربي والإسرائيلي، عندئذ يمكنهم أن يسيروا بهدوء وثقة في طريق السيطرة الكاملة على المنطقة، وتحقيق الصلح بين الطرفين اللذين أصبحا داخلين في نطاق ونفوذ أمريكا بلا منافس.
هذا هو المخطط الشيطاني الذي رسم لمصر، وللمنطقة العربية بأسرها، بمجرد تولي السادات الحكم، ولكن لنقل مرة أخرى إن التدرج الشديد كان جزءا أساسيا من نجاح الخطة، فليس من السهل أن تظل تقنع الناس، سنوات طويلة، بأن السوفييت أصدقاؤنا والأمريكان ألد أعدائنا، ثم تنتقل بهم مرة واحدة إلى القول بأن السوفييت هم الشياطين والأمريكان يمكن أن يصبحوا أصدقاء، أو يمكن على الأقل «تحييدهم»، ومن هنا كان من الضروري تنفيذ أهداف هذا المخطط الطويل الأمد خطوة خطوة، فتوضع الأسس أولا، ثم تأتي الخطوات التالية واحدة إثر الأخرى، ولما كانت مرحلة الانتقال الأولى هي الأصعب دائما، فقد كانت تحتاج إلى حذر وبراعة من نوع خاص.
وقبل أن نعرض المراحل التي مرت بها هذه الخطة، دعونا نتأمل تقييم هيكل الأخير، في «خريف الغضب» وفي غيره من كتاباته القريبة العهد، لما حدث في هذه المرحلة.
إن هيكل يتحدث بطريقة يصفها بأنها «منصفة» عن دور السلاح السوفييتي في هذه المرحلة، فيقول: «في الحقيقة، وللإنصاف، فإن الاتحاد السوفييتي لم يقصر في معاملة مصر أثناء حرب أكتوبر أو بعدها مباشرة، ولا يمكن لأحد أن يتجاهل - بصرف النظر عما قيل ويقال - أن كل ما تحقق في حرب أكتوبر تحقق بسلاح سوفييتي، وبعد حرب أكتوبر مباشرة فإن الاتحاد السوفييتي قدم لمصر 250 دبابة من طراز «تي يو 62» هدية ... تعويضا لها عن خسائر الحرب، كما أنه باع إليها فيما بعد ثلاثة أسراب من طائرات ميج 23 المتطورة، ومع ذلك فقد كانت مكافأته هي استبعاده من مؤتمر جنيف في ديسمبر 1973م ...
وفي أبريل 1974م كان السادات عنيفا في هجومه على الاتحاد السوفييتي بأنه قصر في التزامه بتعويض مصر عن كل خسائرها في القتال، دون أن يشرح الأساس الذي جعله يتصور أن هناك التزاما سوفييتيا بتعويض مصر عن خسائرها.» ثم يجري هيكل مقارنة بين ما اشترته مصر من الاتحاد السوفييتي على مدى عشرين عاما (1955-1975م) وقيمته 2200 مليون روبل ، دفعت منها 500 مليون روبل وبقي عليها 1700 مليون، ودخلت بها مصر خمس حروب: السويس، واليمن، وحرب 67، وحرب الاستنزاف، وحرب أكتوبر. أما السلاح الأمريكي فكانت قيمته 6600 مليون دولار في ست سنوات (1975-1981م) لم تدخل بها أي حرب جديدة.
ولنستمع إلى شهادة هيكل في حديث قريب العهد عن أضرار التسلح عن طريق أمريكا: «لقد كانوا (يقصد المملكة العربية السعودية) قلقين جدا مما يسمونه الخطر الشيوعي في المنطقة، وكانوا يريدون إخراج السوفييت ... وصحيح أنهم مولوا بعد ذلك شراء أسلحة غربية، ولكني ممن يعتقدون أن الأسلحة الغربية لا تستطيع أن تدافع ضد إسرائيل، إنها تصلح لعمليات في الكونغو أو السودان أو الصومال، أما إسرائيل فإنها ستتلقى أمام كل قطعة سلاح أمريكية يحصل عليها العرب، ما يوازيها، بل ما يتفوق عليها ويلاشيها.»
1
Page inconnue