Quel est l'âge de la colère ? : Structure et crise de la pensée arabe
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
Genres
إن الجميع في الوهم والضحالة الفكرية سواء، والكل نشئوا في مناخ سياسي لا يسمح بالموضوعية ولا يترك مجالا للنقاش المنطقي المجرد عن الأهواء، فالساداتيون يقولون: لقد نبشتم قبر السادات، وهنا يرد الناصري: وأين كنتم عندما نبش قبر عبد الناصر؟ أنتم فئران! ولكنه حين ينبش هو نفسه قبر السادات، ويهاجمه خصومه لهذا السبب، يتساءل في براءة: هل من المعقول أن يمنعونا عن نقد «كل حاكم» حيا أو ميتا؟
إنها أرجوحة شيطانية، يتراقص فيها الجميع سكارى بخمر الأفكار الزائفة والقيم المضللة، ويثبتون بها، على نحو قاطع، طفولية الفكر السياسي بين جميع أطراف اللعبة بعد ثلاثين عاما من ثورة، أعلنت أن هدفها تحرير الفكر وتصحيح مسار القيم.
تظل هناك، بعد ذلك، نقطة واحدة يمكن أن يلجأ إليها هيكل في دفاعه، وهي أن نقده للسادات بدأ أثناء حياته، هذا صحيح، ولكن ليقل لي الأستاذ هيكل «بصراحة»: لو كان السادات لا يزال حيا، أكان يستطيع أن يتكلم عن «ست البرين» وعن «المجعراتي المتسول» وكأس الفودكا الذي يؤخذ بعد كل غداء؟ ليجب بصراحة أيضا عن هذا السؤال: ما دام هو نفسه صاحب منطق القطط والفئران، فأين يضع نفسه، في هذه النقطة بالذات، بين هاتين الفئتين؟
إن المسألة كلها خلط مركب، فالكلام عن الأحياء والأموات، والتفرقة بينهم في النقد، أمر لا معنى له في ظل أي وعي سياسي سليم، ومبدأ «اذكروا محاسن موتاكم» ينطبق على الأقارب أو الجيران أو الشركاء، ولكنه خارج عن مجال الكتابة التاريخية والسياسية، ولو صح هذا المبدأ في تلك الميادين الأخيرة، لما استطعنا كتابة التاريخ، ولكان الموت هو شهادة البراءة لكل حاكم ظالم أو فاسق أو طاغية، ولأصبح كل مؤرخ، بحكم مهنته ذاتها، نباشا للقبور، ولكن الناس الذين اعتادوا على مدى سنوات طويلة، أن يحصروا تفكيرهم في شخص الحاكم، والذين عجزوا عن أن يتصوروا أية حقيقة تتجاوزه، هم الذين يصبغون السياسة بهذه الصبغة الشخصية، ويحكمون على تصرفات الحكام مثلما يحكمون على سلوك «كبار العائلة»، وينسون المسئوليات الخاصة «لرجل الدولة »، التي تحتم علينا أن نحاسبه على كل شيء ، وفي أي وقت نشاء.
هذا الذي قلناه على الموضوع كله، من حيث المبدأ، وفي ظل أي نظام، حتى النظام الديمقراطي، أما النظام الدكتاتوري - الذي تدور في ظله كل مناقشات هيكل وخصومه - ففيه يصبح الموقف أوضح، فالنظام الدكتاتوري لا يسمح بمناقشة الحاكم «إلا» بعد وفاته، وما دام النظام الدكتاتوري تحكمه أسود مهيبة وشامخة، فمن الطبيعي أن يكون على الطرف الآخر، فئران - وإلا فعلى أي شيء يستأسد الأسود؟
إن الناقد الذي يهاجم أي حاكم فردي مطلق بعد مماته، إنما يتصرف تصرفا طبيعيا لا مفر منه، لو قيل له: إنك خائف، لكان رده: نعم، إنني لم أتكلم إلا الآن؛ لأنني كنت خائفا، ولي كل الحق في أن أخاف، وحتى لو ادعى هيكل الشجاعة فأكد أنه انتقد السادات في حياته، فإن هذه ليست قاعدة يمكن أن تسري على الجميع، فهيكل قد استطاع أن يختلف مع السادات في سنواته الأخيرة؛ لأنه هيكل، بكل ما يحمله من نفوذ وما لديه من اتصالات عالمية، وما يحتفظ به من أسرار تبعث الرعب في قلوب أقوى الأقوياء - وهذه كلها إمكانات لا تتوافر لأي كاتب آخر، حتى لو كان في منزلة توفيق الحكيم، ومع كل ذلك فإن هيكل عندما هاجم الحاكم الفرد في حياته لم يكن يمسه إلا مسا رقيقا، واضطر - بكل سلطته ونفوذه وإمكاناته - أن ينتظر حتى يموت لكي يغوص في الأعماق.
إن القضية كلها - أعني الكتابة عن الحكام أحياء أم أمواتا - هي في رأينا قضية ما كان ينبغي أن تثار، وليس الاهتمام المفرط الذي أبداه أطراف النزاع بها إلا دليلا على قصور شديد في الوعي السياسي لدى الجميع، والمسألة ببساطة استغلال لعاطفية الجماهير واستغفال لعقولها من أجل الحيلولة دون نقد الحاكم حين لا يعود الناس خائفين، بعد أن كان نقده ممنوعا عندما كانوا خائفين، والخطأ الحقيقي الذي ارتكبه هيكل، لا يكمن في أنه انتظر حتى يموت السادات ثم فجر قنابل المعلومات على قبره؛ إذ إن الدكتاتور لا يمكن نقده إلا بهذه الطريقة، وإنما يكمن خطأ هيكل في أنه لم يكن يدرك هذه الحقيقة طوال الوقت، بل عاش الجانب الأكبر من حياته واقعا في وهم «القطط والفئران» والشجاعة على الحاضرين والجبن على الغائبين.
الفصل الرابع
ظروف العائلة أم اختيار مقصود؟
تظل ردود الفعل على كتاب هيكل مصدرا مفيدا غاية الفائدة؛ لتحليل أساليب التفكير المشوهة، التي أصبحت سائدة في عالمنا العربي بعد سنوات طويلة من القمع، وتتعمق دلالة هذا التشويه حين ندرك أن الكاتب الذي أثار ردود الفعل هذه، لم يسلم هو ذاته، في كثير من الأحيان، من الوقوع في أخطاء نقاده نفسها، بحيث يشعر المرء بأن المسألة في حقيقتها لا ينبغي أن تناقش على مستوى أطراف النزاع، ولا ينبغي أن تنحصر في البحث عن المصيب والمخطئ بين هذه الأطراف، وإنما المشكلة الحقيقية تكمن في ذلك الجو الفكري المزيف الذي طغى تأثيره على الجميع ولم يسلم منه أي طرف.
Page inconnue