Paroles sur les principes de la science de la morale
كلمات في مبادئ علم الأخلاق
Genres
يجيب الجامدون المتشائمون، وهم الذين يسميهم الغزالي أهل البطالة والكسل، محتجين على دعواهم بحجتين؛ الأولى: مقايسة نظرية، وهي أنه كما لا يمكن الإنسان تحويل خلقته الظاهرية من الدمامة إلى الوسامة، كذلك لا يمكنه تغيير طبيعته الباطنة من الشرية إلى الخيرية؛ إذ لا فرق بين فطرة وفطرة، كلاهما من صنع الله، الذي لا تبديل لخلقه. الحجة الثانية: تجربة عملية، وهي أن كثيرا من أهل المجاهدة والرياضة حاولوا في أنفسهم تحطيم قوتي الشهوة والغضب، وإسكات غريزتي الأمل والألم، فباءوا بالفشل. وإذا كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة لاكتساب الخلق الحميد، وقد ثبت استحالتها، كانت غايتها محالة كذلك.
ونحن ندحض هاتين الحجتين، واحدة واحدة، على عكس ترتيبهما: (3)
أما الحجة العملية فإن الدليل التجريبي قائم على عكس ما زعموا فيها؛ فقد وفق الإنسان في كل عصوره إلى نقل طباع الحيوان من النفور إلى الإلف، ومن الصعوبة والحزونة إلى السلاسة والانقياد، ومن اعوجاج السير واضطرابه إلى اعتداله وانتظامه ... حتى إن الإنسان ليرقص الخيل، ويلاعب الطير، ويعلم الجوارح ألا تطعم مما تمسكه لربها وهي في أشد الحاجة إليه ... فإذا كان هذا هو الشأن في غرائز العجماوات، فكيف بالغرائز الإنسانية التي أثبت علم النفس المقارن أنها أسلس قيادا، وأعظم مرونة، بسبب تنوعها وتعارضها
4
وقبولها للمزج والتعديل بينها بترجيح بعضها على بعض؟ (4)
ولو سلمنا جدلا استعصاء الطباع الإنسانية في أنفسها على المحو والإثبات، فإننا لا نسلم استعصاءها على التهذيب والتنظيم. ألا وإننا ليس يلزمنا في تصحيح مذهبنا أن نثبت لأنفسنا سلطانا على قلب طباعنا وتحويل جرثومتها الأولى، بل يكفينا أن نثبت اقتدارنا على تعقيم هذه الجرثومة أو على إخصابها، ثم على تربيتها بعد ذلك أو إهمالها. ومثل ذلك مثل حبتي عنب وحنظل؛ فإنك لست ببالغ ولو حرصت أن تجعل العنب حنظلا أو الحنظل عنبا، ولكنك تملك أن تضع إحدى الحبتين أو كلتيهما على صخرة جافة ملساء لا تغذيها تربة ولا يرويها ماء، فلا تعطيك زهرا ولا ثمرا؛ وتملك أن تضعها في أرض طيبة تؤويها من الأعاصير، وتحميها من الحشرات والطفيليات، ثم تتعهدها بالماء والسماد، حتى تنبت لك النبات الذي تؤهلها له طبيعتها، ثم لا تزال تلاحقها، تقويما لأغصانها، وتهذيبا لأشواكها، وتسوية لها طولا أو عرضا على الشكل والمقدار الذي ترضاه لها. فكذلك الروح وما فيها من قابليات واستعدادات، وسجايا وجبلات، لا تستطيع أن تبدل عناصرها تبديلا، ولكنك أهل لأن تتعهد عناصر الخير فيها؛ إمدادا بماء العلوم والمعارف، ورفدا بالعمل الصالح، وصقلا وجلاء، بالندم على السقطات والزلات، وبما شئت من تزكية وتنمية، كما قال الله تعالى:
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وأنت أهل كذلك لأن تدع مرآتها يعلوها صدأ الجهل، وتغشاها عدوى خلطاء السوء، وتتراكم عليها أنقاض العادات الذميمة، كما قال الله تعالى:
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون .
وبالجملة فإنما يكون الجهاد الخلقي عبثا في أحد افتراضين لا ثالث لهما: أن تكون النفس الإنسانية قد خلقت خلقا كاملا مستجمعا لكل أطوارها، أو أن تكون خلقت بتراء جامدة غير قابلة للكمال. أما وهي كما قال الغزالي ناقصة بالفعل ولكنها منطوية على إمكانيات الكمال، قابلة بالقوة لما شاء الله من درجات الترقي والتدلي، فقد اتسع ميدان الجهاد أمام كل مجاهد. وذلك كله مما توحي به الآيات القرآنية الكريمة، حيث يقول الله تعالى:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ، فجعل تسوية النفس من فعل البارئ المصور، ولكنه جعل تزكيتها أو تدسيتها من عمل الإنسان.
Page inconnue