Paroles sur les principes de la science de la morale
كلمات في مبادئ علم الأخلاق
Genres
وسنرى عند بسط هذه الاعتراضات أنها وإن كانت تتجه في شطرها الأول إلى إبطال القسم النظري وحده، إلا أن شطرها الأخير يهدف إلى إبطال القسمين: النظري، والعملي جميعا. والواقع أن مهمة هذه الفلسفة محو كلمة الوجوب من معاجم الأخلاق كلية، بحجة أن السؤال «عما يجب أن يكون» لا محل له في العلوم، وأن مطلب العلم إنما هو البحث «عما هو كائن» فالذي تطلب دراسته في الأخلاق هو: «ماذا يفعل المجتمع في الواقع؟ وماذا يترك؟» وهكذا يريدون أن يصبح علم الأخلاق فرعا من فروع علم الاجتماع، يسمى علم الآداب العرفية، أو علم الاجتماع الأخلاقي، وتقتصر مهمته على وصف سلوك الناس وأخلاقهم على ما هي عليه لا كما يجب أن تكون. فلنعد إلى بسط الاعتراضات الأربعة ومناقشتها:
تقرير الاعتراض الأول، وهو التناقض في فكرة الفلسفة العملية
بيان ذلك أن من طبيعة الفلسفة أو العلم النظري أنها تبحث عن الحقائق وتكشفها على ما هي عليه في الواقع، فلا بد من وجود معلوم في الواقع يكشفه هذا العلم. لكن قضية كونها عملية، أي تشريعية آمرة ملزمة، أنها تطالب بتحصيل شيء يجب أن يكون ليس واقعا بالفعل؛ لأن الأمر بالشيء إنما يكون قبل وقوعه، لا بعد وقوعه، ولا في حال وقوعه. وهكذا يكون موضوع هذه الفلسفة موصوفا بوصفين متناقضين: أنه واقع وأنه ليس بواقع، ويكون الحكم الواحد في هذا العلم يمت إلى فصيلتين متباينتين أيضا؛ لأنه باعتبار أنه وصف لموجود، يكون حكما وقوعيا، وباعتبار أنه طلب لما ليس بموجود، هو حكم قيمي مثالي، فيكون وقوعيا مثاليا معا، أو إخباريا إنشائيا في آن واحد، من جهة واحدة، أي من جهة حقيقته ومعناه، وهذا بين البطلان. ولا يقال إن ها هنا حكمين منفصلين؛ أحدهما: وصفي وقوعي، والآخر: تشريعي قيمي، والثاني منهما تابع للأول ونتيجة له؛ لأن هذه محاولة محال، فإن الواقعة لا تلد مثالية أبدا، والخير لا ينتج إنشاء بحيلة من الحيل.
هذا هو تصوير الاعتراض.
ولكنا لو تأملنا مليا لاكتشفنا ما فيه من المغالطات الخفية؛ فإن كلمة «الواقع» في تعريفنا الفلسفة بأنها «البحث عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في الواقع.» لا تعني الواقع في الزمن الحاضر، بل في الحقيقة ونفس الأمر، سواء أكان وقوعه في الماضي أو الحال أو الاستقبال، فتشمل ما كان وما هو كائن وما سيكون، وتشمل النهائي واللانهائي، بل تشمل المعدوم الذي لا يرى ضوء الوجود، وتشمل من المعدومات الممكن والمحال، وتتخطى المباني إلى المعاني، وتتجاوز المحسات إلى المجردات. وبالجملة فإن التأمل الفلسفي يتناول كل ما يتعلق به الفكر ويخطر بالبال، لمعرفة الحق فيه، بل يتناول الفكر نفسه وحدود عمله ومنهاج سيره، وما فيه من مبادئ ثابتة أو متحولة، وما يتطلع إليه من قيم عالية أو نازلة. فلا عجب إذن أن يكون للأخلاق فلسفة، كما للعقائد فلسفة. ألا وإن الفلسفة في كل شأن تتناوله ترد الفروع فيه إلى أصولها الأولى وقواعدها العامة، وتزن كل طائفة من المعاني بميزانها اللائق بها، فتزن الأحكام والأوامر الأخلاقية بميزان العدل والقسط، طبقا لمنطق القضايا الإنشائية، كما تزن العقائد والقضايا الإخبارية بميزان الحق والصدق، الذي يقتضيه وضعها العقلي.
وهكذا يتبين بجلاء أن فلسفة الأخلاق فلسفة وصفية تصويرية، كاشفة لأصول القيم الأخلاقية؛ ولكنها بتقرير هذه الأصول وإرسائها تبعث في النفس إيمانا بعدالة تلك القيم، واقتناعا بأنها تستند إلى حقائق ثابتة، وتنتسب إلى مقدسات سامية. ومن شأن هذا الإيمان بدوره أن يوحي إلى النفس أمرا علويا بوجوب تحقيق تلك القيم الكبرى.
فها هنا إذن حكمان منفصلان لا اختلاط بينهما، ولا التباس في أمرهما. وإن أولهما يستتبع ثانيهما حقا، لكنه لا يستتبعه استتباع المقدمات القياسية لنتائجها المنطوية فيها، حتى يقال إن الخبر لا ينتج إنشاء، بل استتباع الأسباب لمسبباتها والوسائل لمقاصدها؛ فإن معرفة مبررات القانون، والاقتناع بعدالته يجذب النفوس إلى امتثاله، ويغريها بطاعته عن محبة وطواعية.
تقرير الاعتراض الثاني، وهو أن بحوث الأخلاق النظرية جهود ضائعة
ذلك أنه كان المنتظر، عند الاختلاف في المبادئ النظرية العامة، أن يستنبط من كل مبدأ قواعد عملية تناسبه، مخالفة للقواعد الأخرى. غير أننا إذا استقرأنا الفلسفات الأخلاقية على تنوعها وتنازعها نراها تتلاقي عند قواعد عملية متشابهة بل متماثلة، حتى إن أنصار المذهب النفعي ينادون - كغيرهم - بمبدأ «أحب عدوك كما تحب أخاك. وأحب أخاك كما تحب نفسك.» وأنصار المذهب الحيوي التطوري يوافقون الواجبيين على التزمت الصارم الذي لا قيد فيه ولا استثناء. وهكذا نرى القواعد التطبيقية تسير مستقلة تمام الاستقلال عن المبادئ النظرية. ويا ليت أمر الفلسفة الأخلاقية وقف عند حد خلوها عن النتائج العملية، وبقيت لها فائدة نظرية تمس عقائد المجتمع وآراءه؛ ولكننا بينما نرى الفلسفات العلمية والفلسفات الدينية تترك أثرها في المجتمع، وتلاقي من رجال الأديان حركة قوية في تأييدها أو معارضتها، نرى هذه النظريات الأخلاقية تسير على حافة الحياة لا يحس بها أحد، بل يحدث التطور في آداب المجتمع بعيدا عن التأثر بها إطلاقا. وهكذا نراها عاطلة عن كل فائدة تشريعية أو اجتماعية.
ونحن نجيب عن هذا الاعتراض بشقيه، فنقول: أما دعوى اتفاق أصحاب النظريات الأخلاقية كلهم على قواعد عملية واحدة فهي دعوى غير صحيحة؛ فهناك مثلا مذهب القوة الذي يتنكر لكل القواعد الأخلاقية المعروفة، ويرى أنها ما وضعت إلا لاستغلال الضعفاء والسيطرة على الجماهير، وأن القوة هي التي تجعل الحق حقا والباطل باطلا. وهناك مذهب المتعة والمسرة، الذي يوصي باغتنام اللحظة الحاضرة، واقتناص مشتهياتها، دون حساب للماضي ولا للمستقبل ... نعم يبقى السؤال عن الفائدة في دراسة المذاهب الأخرى، المختلفة في نظرياتها، المتحدة في تطبيقاتها. وجوابه أن تضافر النظريات المختلفة على قاعدة واحدة، كترادف الأدلة المتنوعة على الدعوى؛ فهي بمثابة التحريض بمختلف الوسائل على العمل بتلك القواعد، كأنها تقول لنا: من كان همه طلب الكمال الإنساني لذاته فعليه بالتحلي بالفضائل، ومن كان همه المتعة الروحية الحقيقية فعليه بالتحلي بالفضائل، ومن كان همه المصلحة للفرد أو الجماعة فعليه بالتحلي بالفضائل، وهكذا ... وأما قولهم إن قافلة الحياة الاجتماعية تسير غير مبالية باختلاف الفلاسفة في المبادئ العليا للأخلاق، فنقول إن المجتمع طبقتان: طبقة العامة والجماهير، ذوي الحياة الكادحة، الذين ليس لهم من الفراغ ما يتلفتون فيه نحو هذا النور؛ وطبقة الخاصة المثقفين، الذين لا يكتفون بمعرفة الطرق العملية، حتى يضموا إليها براهينها النظرية، ومبادئها الكلية. ولكل طائفة من هؤلاء المثقفين مشرب في الاستدلال، وغرض يسعى إليه في الحياة. فهؤلاء يعنيهم أشد العناية أن يستعرضوا هذه النظريات، ليختار كل منهم أقربها لاقتناعه، أو يتزودوا من جملتها ويتسلحوا بمختلف أسلحتها، للانتصار على مذاهب الهدم ونزعات التشكيك في حقيقة القانون الأخلاقي.
Page inconnue