Mots en littérature

Anwar Macdawi d. 1385 AH
58

Mots en littérature

كلمات في الأدب

Genres

إننا، عندما يقول ناقد كبير معاصر عن الروائي الفرنسي بلزاك إنه أعظم كتاب الرواية، نجد أنه قد بنى حكمه على أساس حقيقة ناصعة، هي أنه لم يستطع أن يخرج من كل كتب التاريخ التي قرأها عن المجتمع الفرنسي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بصورة واقعية ومتكاملة لهذا المجتمع، كما خرج بهذه الصورة من الأعمال الروائية لبلزاك. وعندما نذكر أن هذا الكاتب العظيم كان يحرص على البساطة المتناهية في لغة الأداء، نذكر في الوقت نفسه أنه قد تعرض - بسبب هذه البساطة - لبعض صيحات الإنكار من نقاد عصره، حين لم يجدوا مأخذا في فنه غير أن أسلوبه يشبه في رأيهم أسلوب الكتاب الصحفيين. ولم يكن بلزاك عاجزا عن مجاراة أصحاب الصنعة البيانية من الكتاب الرومانسيين وبقايا الكلاسيكيين في جيله، ولكنه آثر ألا يقصر أدبه على المثقفين ورواد الصالونات الأدبية، ومضى يشق لهذا الأدب الواقعي مجرى عميقا وطويلا، خلال أكبر عدد من الصفوف الجماهيرية القارئة. ومن هنا استطاع أن يطفئ بريق الرومانسية التعبيرية في عصرها المتألق، وأن يبهر بالوهج الجديد للأدب الواقعي في شكله ومضمونه، كل العيون المتطلعة إلى ضوء التطور!

هكذا كانت الصيحات التي ارتفعت في وجه بلزاك، ولم تستطع أن تعوق خط السير الذي رسمه لأدبه، وانتهى به إلى مزيج رائع من التفوق والانتصار. إننا نسمع اليوم نفس الصيحات أو ما يشبهها إنكارا وثورة، كلما استجاب واحد من كتابنا القصصيين أو المسرحيين لصوت النقد، وقام بتبسيط لغة الأداء بالنسبة إلى عملية السرد، وإدارة الحوار القصصي والمسرحي بما يطابق الواقع للشخصيات. وتنطلق فنون الاتهام من أفواه المعترضين، بأن في هذا الاتجاه خطرا على الفصحى مبعثه تشجيع اللغة الدارجة، وإفساح الطريق إلى كل عاجز عن الأداء «البليغ»، ليكون واحدا من حملة الأقلام. ثم يمتد الاتهام بعد ذلك حتى يتخذ نقطة ارتكاز جديدة، مؤداها أن في هذا الاتجاه خطرا آخر على وحدة الفهم المشترك بين القراء العرب، وهي الوحدة التي تحققها لهم تلك اللغة الفصحى، التي يعبر بها الأدب في كل أقطار العروبة؛ ذلك لأن اختلاف اللهجات المحلية بين قطر وآخر، كفيل في رأيهم بأن يخلق مجموعة من حواجز التمثل المعنوي للتعبير بين كاتب من هنا وقارئ من هناك.

إذا احتاج هذا الاتهام إلى رد فإن الرد مهيأ وميسور؛ مهيأ بالكلمة وميسور بالتجربة، أما التجربة فقد قام بها توفيق الحكيم منذ خمسة وعشرين عاما على وجه التقريب، يوم أن خرج على القراء العرب بعمله الروائي الناضج «عودة الروح». لقد كانت «عودة الروح» بداية التطبيق العملي لما ندعو إليه اليوم في أدبنا القصصي الحديث، كانت عملية السرد بالفصحى المبسطة، وكانت عملية الحوار باللغة العامية، ولم يقل أحد إن اتجاه توفيق الحكيم قد أنقص من قدر القيمة الفنية لعمله الروائي الناضج، أو إن اللغة الفصحى قد أصابها شيء من التصدع في ذلك الحين، أو إن لغة الحوار في «عودة الروح» كانت حاجزا من حواجز الفهم المعنوي الفني، بالنسبة للجمهور القارئ في المملكة السعودية مثلا أو في لبنان أو في سوريا والعراق. ولا خوف بعد ذلك على الفصحى، وهي ما زالت تملك مثل هذا الرصيد من فنون التعبير، ونعني بها النقد والدراسة الأدبية والقصيدة والمسرحية الشعرية والتاريخية، وكل الآثار الفكرية لكتابنا المفكرين.

ونحن نؤمن بأن المستقبل القريب سيحطم من تلقاء نفسه كل الحواجز الفاصلة بين القراء العرب، يوم أن تصبح الوحدة المرتقبة بين الأقطار العربية عاملا جوهريا من عوامل الاتصال في مختلف ألوانه، ومنها الاتصال اللغوي الذي يحقق وحدة الفهم المتبادل بين اللهجات المحلية، وعندئذ يستطيع الكاتب القصصي أو المسرحي مهما كانت جنسيته العربية، أن يخاطب القراء العرب في كل بقعة من الوطن الكبير باللغة الفصحى، إذا أراد شيوخ الأدب، أو بتلك اللغة المزدوجة إذا ما فرضتها إرادة الفن!

ترى هل كان توفيق الحكيم يوم أن استخدم تلك اللغة المزدوجة في «عودة الروح»، عاجزا عن التعبير بتلك اللغة التي يطلق عليها شيوخ الأدب صفة الأداء البليغ؟ الواقع أن اتجاه توفيق الحكيم لم يكن له يومئذ غير دافع واحد، هو على التحقيق لون من الوعي السابق لزمانه؛ لقد كانت «عودة الروح» - بالنسبة لحياته الفنية - نقطة بدء يريد لها بعد ذلك أن تكون نقطة انطلاق، ولن يتهيأ له هذا الانطلاق إلا إذا غزا بعمله الأول أكثر من ميدان قرائي، يجمع بين المثقفين وغير المثقفين في مصر والبلاد العربية. وتم لتوفيق الحكيم ما أراد، ولقيت «عودة الروح» من الرواج ما لم يلقه كتاب عربي سواء كان قصة أو غير قصة، ولم يكن عجيبا أن يلمس الناقد يومئذ أن الأوساط الشعبية من ذوي الثقافة المحدودة، كانت ميدانا بارزا من ميادين هذا الرواج؛ ومن هنا تفاعل توفيق الحكيم - الكاتب الناشئ في ذلك الحين - مع وجدان رجل الشارع، في نفس الوقت الذي تفاعل فيه مع وجدان رجل الأدب. وعندما نجحت التجربة الأولى أعقبها الكاتب بالتجربة الثانية في «يوميات نائب في الأرياف»، ولقد توفر للتجربة الأخيرة ما توفر للتجربة السابقة من عوامل النجاح. ولعل توفيق الحكيم - بعد أن اطمأن إلى تحقيق هدفه - أراد بعد ذلك أن يثبت لحراس اللغة في زمانه، أنه قادر على الأداء «البليغ»؛ ولهذا نراه يختار لنفسه أفقا جديدا، يحلق فيه بجناح الفصحى وهو أفق المسرحية الأسطورية، حيث لقيه القراء العرب في «أهل الكهف» و«بجماليون» و«شهرزاد» و«سليمان الحكيم».

ولا جدال في أن اللغة الفصحى هي اللغة الملائمة للمسرحية الأسطورية والتاريخية؛ لأن هذا اللون من التأليف المسرحي يختلف من ناحية المقومات الفنية، عن المسرح ذي المضمون الاجتماعي المعبر عن مشكلات عصرنا بما فيها من تجارب معاشة؛ ولما كانت شخصيات المسرح الأسطوري ليست إلا رموزا لأفكار الكاتب واتجاهاته، أو واجهات عرض لمجموعة من وجهات النظر الفنية والفلسفية، فمن الطبيعي ألا ننطق هذه الشخصيات - التي ينقصها دم الحياة ونبض الحركة - بلغة حياتنا اليومية. وشخصيات المسرح التاريخي إما أن تكون منتزعة من تاريخنا العربي القديم، أو من تاريخ مماثل لدولة تختلف عنا في لغة التعبير، وما دام الأمر كذلك فمن الطبيعي أيضا ألا ننطق شخصية عربية قديمة أو شخصية أجنبية مماثلة من حيث القدم، بنفس اللغة التي تتحدث بها النماذج الشعبية في مسرحنا الاجتماعي المعاصر.

من هنا كان توفيق الحكيم وغيره من كتابنا المسرحيين على حق، وهم يختارون اللغة الفصحى كوسيلة أدائية لحوار المسرحية الأسطورية والتاريخية؛ ولكننا نرى توفيق الحكيم في الأيام الأخيرة، يتجه اتجاها جديدا في لغة الحوار، بالنسبة إلى مسرحه الذي يعالج بعض مشكلات مجتمعنا الحديث، إنه يحاول أن يرضي حراس الفن وحراس اللغة، يحاول أن يلبي نداء الفنان داخل نفسه، ونداء زملائه من شيوخ الأدب داخل المجمع اللغوي؛ ولهذا لجأ إلى حل وسط يرضي به الطرفين المتنازعين، وأمسك بالعصا من منتصفها حتى لا يكون موضع احتجاج واتهام. لقد كتب توفيق الحكيم حوار مسرحية «الصفقة» باللغة الفصحى، التي يمكن أن يختلف فيها النطق عن القراءة، بمعنى أن هذه اللغة تتحول على لسان الممثل فوق خشبة المسرح إلى لغة عامية، وتتحول على لسان القارئ الذي يتصفح المسرحية إلى لغة فصيحة؛ وما من شك في أن توفيق الحكيم قد بذل كثيرا من الجهد، وهو يختار الجمل الحوارية التي أتاحت لمسرحية «الصفقة»، مثل هذا التزاوج اللفظي الذي التزمه كعلاج للمشكلة، وما كان أغنانا وأغناه عن هذا العلاج.

ولقد حرص توفيق الحكيم على عامية اللغة المنطوقة على خشبة المسرح، لهدف فني يعيه حق الوعي؛ وهو الهدف الذي ندعو إليه في سبيل تكامل المقومات الواقعية، لرسم الشخصيات في العمل المسرحي. ولهذا الاتجاه هدف آخر جعله الأستاذ الحكيم نصب عينيه، وهو عملية التجاوب الجماهيري مع المسرح التمثيلي، الذي يصور شتى الجوانب من مجتمعنا الحديث، بلغة الواقع في حياتنا اليومية، إن شباك التذاكر في مسارحنا المصرية، يشهد ظاهرة تتكرر دائما كلما عرضت إحدى المسرحيات الجديدة لكاتب من كتابنا المسرحيين، وهي أن رجل الشارع المصري بقدر ما يعرض عن المسرحية المكتوبة باللغة الفصحى، يقبل على المسرحية التي يعرف أن مضمونها سينقل إليه، عن طريق تلك اللغة الأخرى التي يتم بينه وبينها كثير من الألفة والتجاوب. من هنا ندرك جانبا مهما من جوانب النجاح الذي أحرزه في السنوات الأخيرة عندنا فريق من كتاب المسرح الشبان؛ إن سر نجاحهم الفني والجماهيري يرجع أولا إلى أنهم يمثلون مشكلات عصرهم، من خلال الملاحظة الدقيقة والتجارب المعاشة، وإلى أنهم يعرضون المضمون الاجتماعي لهذه المشكلات بعد ذلك، من خلال الشكل التعبيري الملائم، ونعني به لغة الحوار في قالبها الواقعي ودلالاتها الموحية. ومثل هذا النجاح من ناحيتيه الفنية والجماهيرية، وبنفس هذ المقومات يطالعنا مرة أخرى بالنسبة إلى مجموعة أخرى من كتابنا الشبان في ميدان القصة القصيرة والطويلة.

ولا بد لهذه الجولة الاتجاهية الناقدة أن تقف عند نموذج آخر من شيوخ الأدب هو محمود تيمور؛ هذا الكاتب الشيخ - منذ انضمامه إلى طائفة المجمعيين - يسلك طريقا آخر غير الذي كان يسلكه من قبل، بالنسبة إلى لغة الأداء في القصة والمسرحية. كانت الصفة الغالبة على جوهر الشكل التعبيري عند محمود تيمور، هي البساطة التي لا تقطع خيوط الاتصال الفكري بينه وبين رجل الشارع؛ وتحقيقا لهذا الاتجاه الذي كان يلتزمه كلون من المسايرة الواقعية لروح العصر، كتب بعض مسرحياته الأخيرة باللغة العامية، والتقى كثيرا من ناحية الأداء السردي في مجال القصة، مع هذه الخطوات الموفقة التي يخطوها اليوم كتابنا الشبان. ولكنه تغير بعد أن أصبح عضوا من أعضاء المجمع اللغوي؛ مسرحياته التي كتبها بالعامية أعاد كتابتها بتلك اللغة الفصحى التي ترضي المجمعيين، وكأنه أراد أن يثبت لهم أنه جدير بزمالتهم وقدرته على الأداء «البليغ»؛ ونظرة من نظرات المراجعة النقدية لهذه المسرحيات المعدلة من حيث لغة الحوار، تؤكد مدى الفوارق الفنية بين واقع كل شخصية رسمها هنا وهناك، لقد فقدت الشخصيات في صورتها الأخيرة كثيرا من أصالة تكوينها النفسي والإنساني، حين فقدت أصالة الواقع التعبيري في اللغة المنطوقة، وهو أحد العناصر الرئيسية المبرزة لهذا التكوين!

والقصة عند الأستاذ تيمور قد انتقلت هي الأخرى من طابع الفصحى المبسطة إلى طابع الفصحى المعقدة بل المسرفة في التعقيد؛ ولقد قلت له - يوم أن كنت واحدا من النقاد الذين اختارتهم الإذاعة المصرية لمناقشة روايته الأخيرة «شمروخ» - إن هذه الرواية من حيث المضمون تعد نموذجا طيبا يباركه النقد؛ ذلك لأنها تمثل على مستوى جيد أدب الواقعية الاشتراكية، ولكنها للأسف قد كتبت ليقرأها أعضاء المجمع؛ إن الأغلبية المطلقة من القراء لا تستطيع مثلا أن تفهم في لغة الأداء، أمثال هذه النماذج من التعبير «بخ بخ يا صاحبي؛ ذو الوجه المصوح والأعصاب المستفزة؛ وعرك أذن المذياع!» لماذا لا نستبدل هذه النماذج التعبيرية مثلا، بما يؤدي المعنى نفسه في الفصحى المبسطة؟ لقد كان الأستاذ تيمور يستطيع أن يقول: «حسنا حسنا يا صاحبي؛ ذو الوجه الذابل والأعصاب المتوترة، وأدار مفتاح الراديو.» إن الأدب القصصي والمسرحي يجب أن يكون في متناول أيدي الجماهير، ولكي يكون في متناول أيديهم يجب أن يكون في متناول عقولهم، وبخاصة إذا كان هذا الأدب يتحدث عن مشكلات الجموع ويخدم قضية الإنسان!

Page inconnue